كان الفاصل المشهدي للموت، وصُوره، أحد الأشكال التي انتقلت بها الحداثة إلى شكل أكثر تجذُّراً. زمن الأنوار، وصولاً للحداثة، قد يكون الزمن الذي توقفت فيه إبادة الأشياء والبشر جماعياً على حد سواء، وانتهاء عصر المقبرة الجماعية وقُبولها. لم تعد الكتب تُحرق ويُحرق أصحابها إن خالفوا الكنيسة أو السلطات، ولا البشر على أفكارهم، وبحسب هيغل كان الحصول على الاعتراف بالفرد بما هو رغبة عميقة وجوهرية، وهي ذاتها لحظة بداية الحداثة، فتحولت الرغبة بالاعتراف إلى رفض للإلغاء والموت على حدٍ سواء، الموت بحالته الحيوانية، أي السلب الطبيعي. أما الحداثة فألبست الموت ذاتاً ووعياً للفرد. فللمقتول حقوق قبل موته، وله اسم وأثر وحق بعد موته، ولم يعد الهواء يحتمل جثثاً مرمية، ولا مَقْتلة عامّة، الاعتراف برفض المقبرة يَصلح أن يكون جوهر الحداثة.
المقبرة الجماعية كانت عِبئاً. أو مظهرها اجتماعياً وفلسفياً، كان عبئاً. في معركة تجاوزت المئة يوم في فلسطين، شهدنا أكثر من عشر مقابر جماعية يُنشئها السكان ومختلف العاملين الفلسطينيين. يحفرون للجثث، ويهيئون مواضعها وهم بانتظار مقبرة ثانية.
ما نشاهده اليوم من صُور يخرج منطقتنا، وتاريخها القريب، عن أي تقسيم ممكن لفلسفة الصورة وتاريخها. فالموقف النقدي أو السرد الذي يرافق مَشاهد المقابر الجماعية، ينقسم إلى قسمين. قسم الفزع والدراما، وقسم الهوس بإبراز المَقْتلة بوصفها تخلّياً من العالم الحديث عن المقتولين، وأصوات الفلسطينيين الذين نجوا من المقبرة ليبكوا بقربها. العائلات الكاملة التي توفيت لم تعد تملك من يبكي عليها، فبكى الجيران والمُتعاطفون معهم. وكثيراً ما كان الدفن مُقاماً من غرب،اء وسريعاً اختزالياً تكون الصلاة فيه مناجاة موثوقة للرب في أن يُبعد الحرب حتى يُصلّى عمن قُتِلوا. الفلسطينيون يقدسون المراسم الأخيرة ويُصرّون عليها. مَشهد القناص الاسرائيلي وهو يستهدف شباناً يحاولون سحب الجثث، لن يُنسى. وفيه دلالة قصوى على قدرة الفلسطيني جسدياً ونفسياً على الزحف، والتآلف مع الخطر المُحدق، والتضحية من أجل إنسانٍ آخر، زحفاً على الوحل وتحت الرصاص. هذا الزحف يملك مقاساً خاصاً أيضاً، فعل الإرادة لدى الزاحف ليكون شهيداً، باختياره الخاص وتعبه وزحف جسده على التربة.
يُطرح سؤال جوهري لكل من شارك في دفن مَن لا يعرفهم، هل تتم حماية الجثة بكل هذا القدر، مقارنة بمحاولة حماية الحياة؟ لا يملك الفلسطيني البسيط أي إجابة ممكنة، الحرب الاسرائيلية على القطاع لا تتيح وقتاً أو ذاكرة ممكنة عن إمكانية الدفاع عن الحياة وعَقْلَنتِها، الاستعداد لإبادة الفلسطينيين يدفعهم فقط نحو التفكير في الموت وما بعده، ويُختزل هذا كله بقيمة الشهادة، أو القَدَر الذي لا بد منه.
يؤسس هذا للسردية الثانية التي يكون فيها هذا الموت تمريناً. ليس التدريب على الموت ببعيد من الفلسفة، إذ يبرز كل من أفلاطون وأبيقور سلوكاً تدريبياً على الموت، بوصفه الغاية المنشودة والسعادة المطلقة ووصولاً لدار خلود النفس، وكثيراً ما بُنيت المجتمعات على وعي يكون فيه الموت بوصفه خلوداً للنفسن آلية تُدركها الجماعة لتشارك بعضها البعض ذكرى الخالدين. فالميّت بشارة لخلود الحي، ثم أن فروم يوضح أن التفاني في سبيل الأمة أو الوطن أو أي قضية، يُنشئ عصاباً نرجسياً جماعياً وسلوكاً اعتيادياً، فتتضخم الذوات في التضحية والموت والانقياد إليه، ويصبح آلية دفاعية لدى الجماعة لتشكل هويتها وحتى أشكال عنفها البديل.
السردية الثانية تتمظهر في سلوك غريب، بناء على مظهرَين متناقضَين يتم فهمهما وإدراكهما عبر الصورة، فتُشكل المقبرة حدثاً مأسوياً للبشرية جمعاء، لكننا لا نحتفظ بها بوصفها صورة وحيدة. هناك شق درامي يتم تحليله وتفصيل الخطاب فيه. شيء من الكلمات الفلسطينية المرافقة لكل مجزرة، ينقل الفعل الدرامي الحزين والمفجع إلى سردية أخرى، في جعل هذه المقابر الجماعية جزءاً صغيراً ومعتاداً من المشهد برمته. فنحن في أماكن أخرى ننتصر، هذه المقبرة ولّادة لمن سيقاتل العدو ويفتِّته، هذه المقبرة ليست سوى جزء من انتصارنا أو أوهامنا، فنحن معتادون، نحن تدربنا على هذا، أو نستعد له.
إن اعترافنا بأننا ضحايا لا يكفينا، مثل كل تمثل مفصلي في الخطاب السردي للأساطير، تتم نَمْذجة الرد والتعبير لدينا من دون أن نملك صورة واحدة أو إدراكاً واحداً لها. فصورة المجزرة والضحايا القريبين منها، تصور أيضاً بطولات المقاومين، ما يكون حزناً وانكساراً يتحول إلى مفعول قوة وبطولة من جهة أخرى. هذه الجناية وهذا الضعف، والمناشدات لإنقاذنا من أيدي حافري المقابر الجماعية، ليست خطابنا الوحيد، نحن نملك أياديَ قوية وقاسية أيضاً، لنقاوم ونحاول حفر مربع واحد لآلية عسكرية أو جندي من جنود الاحتلال.
هذه السردية مشابهة لكل قصة حزينة. على عقَبة الحزن أن يتم حلها برؤية أُخرى، فالمهزومون محنيو الرأس بقرب المجزرة، سيرفعون رؤوسهم في مكانٍ آخر، والطفل وأمُّه في الخيمة سيتم تشبيههما بآلام الولادة وظروفها لدى العذراء (مع انتشار صورة تشبيهية للوحات والأيقونات المسيحية للعذراء وابنها)، وفي الوقت ذاته، ثمة صور وفيديوهات للأطفال يُحيُّون المقاومة. كل سردية درامية أو فظيعة ستحمل هذا التناقض. يميل المتابعون بوعيهم إلى اختيار إحدى الصورتين، ومن مآسي خطاب الانتصار أحياناً أنه يُدرج المقابر الجماعية بجملة "العدو لم يحقق شيئاً"، أو أن "المقاومة تكبد العدو خسائر كبيرة في الآليات". هنا تكون المقبرة الجماعية تدريباً. ونحن العاديين، ممن لا نملك أي خيار على طاولات مُسيّري أحوالنا، قد نكون لا شيء من انتصارات العدو الذي حفر قبورنا، ولا شيء يُذكر في خطاب قادتنا.
في المقاربة السورية، أنشأ النظام مقابر جماعية لا تقل فظاعة عن مقابر العدو الصهيوني. الفارق ليس في نسيان الأمر، بل في التدرب عليه، أو جعل الموت مقبولاً أو مُتاحاً. كان السوريون، عبر صورهم إبان هجوم النظام على مناطقهم، يحجبون القضية الفلسطينية برمتها، المأساة السورية الحالية هي النسيان. لا يشارك السوريون عبر الميديا دعماً للقضية الفلسطينية، بالحفاوة نفسها التي يمتلكها المصريون أو الجزائريون الآن مثلاً، ليس لأن السوري قد تكيّف مع المجازر، ولم يعد يكترث أو يحزن عليها، بل باعتراضٍ لا واعٍ على نسيانه ونسيان المجازر التي ارتكبها النظام في حقه. في منصة "اكس" أو "فايسبوك"، يبرز هذا بوضوح، مقارنة المجازر الجماعية، وصور المقابر والأبنية المهدمة بين سوريا وفلسطين. ويسود سلوك لا واعٍ بالتمسك برواية المقبرة والمجزرة الجماعية وأعداد قتلى كل مجزرة. هذا كله يمكن توصيفه بأنه آلية دفاعية لنرجسية جماعية يتبناها الجميع ضد الجميع، عربياً. لمصر ميزانها أيضاً، سجون السيسي ومقتلته الجاهزة عبر فروعه الأمنية ومخابراته العسكرية. ستكون المجازر والمقابر والسجون هي دلالات الضحايا وعصابهم النرجسي وتراجيديا آلامهم.
يسود في المنطقة أمل في الاعتراف بالموتى، أفراداً أو جموعاً، فتبدو خطاباتنا مفعمة بإنسانية محضة أحياناً، أو خطابات عاطفية تحاول فيها كل الصور الآتية من فلسطين استجداءها، أمام عالم دقيق، حديث، بيروقراطي، مُنظّم، يملك هدفاً. هذه الاختصارات هي لزيجمونت باومان في فهمه لفعل النازية. نحن نبحث عن الاعتراف، رغبتنا ليست في الاعتراف بالحياة، بقدر ما تكون في الاعتراف بأننا قد دُفِنّا على مرأى العالم لمراتٍ متكررة، أو أننا لا نملك سوى تلقي القنابل سرداً مختلفاً، حتى لدى قادتنا. في هذا نستذكر خطاباً مكتوباً ومنشوراً صوتياً لرئيس الأركان المصري، القائد الفذ لحرب 1973 علي سعد الدين الشاذلي، حينما قال أن مقتلة العدو الاسرائيلي تكون في عدد الضحايا، فالعدو الإسرائيلي لا يتحمل الموتى وتزايدهم في صفوفه.
بشكلٍ أو بآخر، لم ندخل الحداثة أبداً، لكننا نتحمل أبشع تجلياتها في أن نكون مشاريع مدرّبة جيداً على الموت، أن نكون نتاجاً لدقتها وتعبيراتها الاستعلائية عن تخلّفنا واستحقاقنا للموت. المفارقة في قدراتنا التدريبية واستعدادنا للموت وتقبُّله، والنزاع على حجم المجازر المُرتكبة فينا. مَن يستحق البكاء اكثر، أو يستحق التعاطف جراء موته. خلودنا هو ما يتم الدفاع عنه بنزاعات عبر وسائل التواصل، لا تغير من الواقع شيئاً، والأسماء المتتالية التي تُدفن وتختفي ويُقاد مصيرها للموت، ستكون مشروعاً دائماً، ما إن تحاول الأنفس العربية أن تفكر في الحياة بدلاً من خلود النفس، أو قد ينتهي هذا كله من دون أي معنى أو جدوى.
بين خطابين للمقابر الجماعية، أَميل للقهر على الضحايا. لا يجزم أحد بما كان رأي الذين قُتِلوا قصفاً، مع عائلاتهم في سوريا وفلسطين وفي أي مكانٍ آخر. لقد دُفنوا لنحزن عليهم، أو من أجل أن يُقاتَل باسمهم. لكن الأفظع هي حيرة الخطاب وطول أمده... فهل نحزن فقط؟ أم أننا ننتصر من دون أن نشعر؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها