حازم العظمة...كل أحدٍ يأتي ليقول قصيدةً أو قصيدتينِ ويمضي

يمتدّ الديوان على مُجمل حيوات العظمة وذاكرته، من دون أن يستدمج نفسه برؤيا المخلّص، ولا رؤيا الضحية. بل هو تناغم نيتشوي: بين تناغم الحياة والفكر والمظهر والإرادة. أي وحدة شعورية شجاعة بتحفظ، من دون غرق انفعالي هائج، أو تداول يوميات غير مهمّة، ومن دون شحنة انفعالية تصلح أن تكون متاحة للقراءة.

خروجه من البيت في فرنسا كذات، لا كحازم الذي قد يعرفه الجميع، بل أن يعرفه النص بما اختمر وقال وتفكر فيه، باستدلاله على نفسه في خطوات البيت العائد إليه – الغربة/المكان، وفي الطريق نحو منزله لإيجاد عنوانه، وفي طرق إيلوار أيضاً. حتى طريق إيلوار محايد لدى الشاعر، فهو لا يُعبّر بعاطفة أبداً لكي تكون شحنته حيادية ويقظة فقط. وحتى إن عرفت من نصه كآبته فهو لن يقولها لك بل ينحتها لتقترب منها وترعاها بشجاعة يدعوك إليها.
 

الباقي والأبدي والحزين، لا يذكره حازم العظمة ولا يوحي إليه، بل بمعناه العملي مُعطياً فرصة للجميع للتفكر والمعرفة داخل نص تلخيصي ومكثف. حتى ما يبدو قاسياً وحزيناً، لا يأخذ في شعر العظمة مقاربة عاطفية إذاً، وهي سمة في كل كتاباته....الـ praxis الوحيد لديه (الذاكرة، الصورة، المشهد، الفعل، والسؤال) وهي تُقال عبر ذات واعية وبلغة حادة وعميقة.

لا يملك سرد العظمة ذاتية مائعة سائلة تضعه ضمن سياق بتنا نعتاده في الاستعارة البكائية، أو الذات التي تتحدث بوصف الجموع، بل الذات التي تلتقط صور ذاكرتها. دلالياً، لا يبحث العظمة عن مقدسات اصطلاحية ليُعبّر عنها، في الديوان مَعلم مختلف وثري لقدرة الكيف الشعري أن يُنتج الدلالة من دون توجس الوضوح. "الصحراء" تُذكر في النص ثماني مرات، من دون أن تشعر بأنه يُريد أن يقول وطناً، أو أن تكون الصحراء مثلاً هي مطهره الخاص، عوده الأبدي الذي من الممكن التعبير عنه كدلالة مختلفة، أو نزوحه من وطنٍ مشمس، إلى بلاد باردة، هو نزوح أوّلي من الشمس، شمسه التي يتدلى بخطواته نحوها، وحينما تختفي يكون للمخيلة ثراؤها في أن تسير.

"حين تحنُّ إلى الصحراءِ مَشِّها في خيالكَ

هذا قبل أن يكون القاحل وطناً أو ذاكرة تَشي ببلاد أو جغرافيا كان فيها. حتى مشاهد البلاد لا يكثفها العظمة متورطاً في النص، بقدر ما يحولها إلى صور من ذاكرة انفعالية مُلمحاً إلى ذاكرته بضراوة الأنا والرؤيا وهي تلتزم التيقظ، وعيه بذاكرته بوصفها ملهاة للموت، لا سرداً عاطفياً أليماً يكون فيها الموت أو الحزن أو حتى بطالة البشر وفقرهم مسرحاً للبكاء. ولا يُحيل في ذِكر البلاد إلا بوصفها بشراً عاصرهم وعاطفوه وعاطفهم، أي أن الحميمية لا ترتبط عنده بهوية جغرافية أو مدى يمكن الاحتكام فيه لمُسمى البلاد وعواقبها.

حتى وصفية العظمة تدور لتبحث عن معنى ذهني ومُجرد، أي إبانة لغوية حادة وذهنية، بلا افتتاحيات بلاغية وسردية من دون داعٍ، حيث الواقع يتمثل بشكل لغوي ولعوب وخفي ومؤثر من دون أن يُغرق في سرد يتضاءل فيه المعنى ويُصبح النص مائعاً. من هنا كانت فكرة النصوص المُرقمة المُقطعة كانقطاعات متعددة لتشكل اللانهائي وتبحث عن السؤال وتُتيح للقارئ أن يبدو متأملاً للوحة، أو باحثاً في تعاقب النصوص عن ثباتٍ للمعنى حتى يجده بعلاقته بذات الشاعر لا بجواب لغوي صرف يُقدم عبر اللغة.

في "أول العشب"، تحفة أسلوبية في تأمل الذات وهي تتيقظ لذاكرتها وواقعها الذي تغير بين مكانين، وتحفة أخرى حيادية الذات وهي تتكلم عن وعيها في العالم الآن، ثم وعي ذاكرتها. من هنا كان "كل أحدٍ يأتي ليقول قصيدةً أو قصيدتينِ ويمضي..".. إنها ذات حيادية تكتب رغم آلام الحيادية وأتعابها. ثم أنّ البطء الخاطف للقصيدة والنص، والمفاجأة التحريرية التي فيه تصلح لأن تكون آلية كتابة في الغالب لا يملكها بجدارة إلا حازم العظمة بكينونة فلسفية وحاسمة وحادة في الكتابة والفهم.

يُذكر أن "أول العشب" هو الكتاب الشعري الرابع لحازم العظمة، ويصدر في 160 صفحة من القطع الوسط، ضمن سلسلة "براءات"، التي تصدرها الدار وتنتصر فيها للشعر، والقصة القصيرة، والنصوص، احتفاءً بهذه الأجناس الأدبية.

من الكتاب: