كل ذي عين وعقل لن يجد صعوبة في أن يدرك أن الشعب اللبناني هو أكثر الشعوب العربية تحملاً لثمن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من أمنه واستقراره وأرواح أبنائه وبنيته التحتية. فمنذ انتهاء المواجهات العربية الكبرى بين العرب وإسرائيل في تشرين الأول 1973، أصبح لبنان هو معركة إسرائيل المفضلة والوحيدة خارج حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، وحتى الصراع الطائفي والحرب الأهلية التي أخذت من عمر لبنان المعاصر خمسة عشر عاماً هى بالأساس من صنع من أرادوا إضعافه لمصلحة إسرائيل، فكل الأطراف المتناحرة في المنطقة وفي خارجها جاءت لتصفي حساباتها على الأرض اللبنانية مخلفة وراءها مزيدا من الأثمان الفادحة التي دفعها ولا يزال يدفعها هذا الشعب العصي المتمسك دوما بالحياة.
في قصته القصيرة "الشيخ عبد الله" الصادرة عن مؤسسة الأهرام في القاهرة ضمن مجموعة قصصية تحمل العنوان نفسه يستحضر الصحافي المصري شريف الشوباشي هذه المعاني المفجعة من خلال قصة الأم المصرية المسيحية التي ضاع منها طفلها على أثر انفجار مروع هز سوق سرسق القديم مع بداية الحرب الأهلية العام 1975، فنشأ مسلماً في كنف الأسرة المسلمة التي التقطته وربته حتى عثرت عليه أمه أخيراً في أعقاب انتهاء الحرب الأهلية وفقاً لاتفاق الطائف العام 1990. بعد خمسة عشر عاما لم تكف الأم خلالها عن البحث عن ابنها المفقود، وبعد سبع سنوات كاملة قرر المخرج المصري محمد أبو سيف والمنتج محمد ياسين تحويل هذا النص الأدبي إلى سردية بصرية سينمائية تحت عنوان "بطل من الجنوب... عزيز عيني" من بطولة الممثلة شبه المعتزلة نجلاء فتحي، وأحمد خليل وكارمن لبس وجوزيف بو عساف ودانيال مطر ورياض شرازي، ومجموعة أخرى من الممثلين اللبنانيين ليجسد الفيلم تلك المأساة الإنسانية بالغة القسوة.
سألت المخرج محمد أبو سيف عن دوافعه لتقديم هذا الفيلم وكيف انتقى هذه القصة القصيرة لكاتب لم يكن مصنفاً ضمن كتاب الأدب المعروفين؟
يقول أبو سيف لـ"المدن" أنه كان يعرف شريف الشوباشي كمذيع وصحافي ومدير لمكتب صحيفة الأهرام في باريس لأكثر من خمسة عشر عاماً، وكمسؤول في منظمة اليونيسكو في العاصمة الفرنسية، لكنه لم يكن قد تعرف عليه ككاتب قصة حيث لم يكن حتى العام 1994 قد نشر أياً من إنتاجه الأدبي. ومنذ أن قرأ أبو سيف قصة "الشيخ عبد الله" ضمن المجموعة القصصية الأولى للشوباشي وهو يفكر في تحويلها إلى عمل سينمائي إذ لم تجذبه فقط معاناة تلك الأم التي ظلّت خمسة عشر عاماً تبحث عن ابنها وسط أخطار الحرب الأهلية، وإنما استرعت انتباهه تجربة هذا الشاب المصري القبطي الذي نشأ مسلماً بحكم الأسرة التي تولت تربيته، فتلقفته الأصولية الإسلامية وحولته إلى أداة فى ذلك الصراع الطائفي الذي استنزف لبنان، ثم تلك التحولات الدراماتيكية في شخصيته حين علم بمصريته ومسيحيته، وذلك الصراع النفسي الذي عاشه بين أصله الديني وبين ما نشأ عليه، وقصة حبه للفتاة المسيحية اللبنانية التي وقف شقيقها المنخرط هو الآخر في دماء الطائفية في وجه ذلك الحب بسبب ما ظنه الجميع اختلافاً في الديانة، فضلاً عن صراع آخر تمثل في مشاعره المشتتة بين أم أنجبته وعانت الكثير في فراقه، وأخرى ربته ومنحته حباً وحناناً فاق كل وصف.
(حمدي قنديل)
غير أن شريف الشوباشي وكاتب سيناريو الفيلم أشرف محمد، وجدا – في ظنّي - حلاً سياسياً قبل أن يكون دراميا لتلك العقدة حين أيقن هذا الشاب في ذروة صراعه النفسي الرهيب أن مكانه ليس في بيروت مع الأم المسلمة التي ربته ولا في مصر مع أمه الحقيقية وأسرته المسيحية، وأنه لن يرفع السلاح مرة أخرى في وجه لبناني عربي مثله، فقرر الانضمام إلى المقاومة اللبنانية في الجنوب بمواجهة إسرائيل العدو الحقيقي للبنان وللأمة العربية كلها، وفي إحدى عمليات المقاومة يستشهد الشيخ عبد الله أو عزيز – اياً ما كان الاسم والدين – دفاعاً عن وطنه وأرضه وسط نحيب المرأتين اللتين وحدتهما تلك اللحظة القاسية.
أعود إلى أبو سيف من جديد ليؤكد أن نهاية الأحداث الفيلم كانت بالأساس هي الهدف الأول من وراء تقديم تلك القصة على الشاشة، فقد دفع الشعب اللبناني ثمناً فادحاً طوال سنوات طويلة حين غفل عن عدوه الحقيقي، وراح يقتتل بحثاً عن لا شيء بحسب تعبير أبو سيف الذي أكد أنه لمس تعاوناً كبيراً من كل الجهات المعنية في لبنان أثناء تصوير الفيلم الذي استمر لمدة شهر تقريباً لا سيما في المناطق التي كانت لا تزال ملتهبة وخاصة قرب الشريط الحدودي فى الجنوب.
(محمد ابو سيف)
ولم تكن نهاية الأحداث فقط هي الحل السياسي والدرامي لتلك المأساة الإنسانية، فقد وجد صناع الفيلم حلاً بصرياً هذه المرة يقدمون من خلاله تاريخ المحنة اللبنانية من خلال مجموعة من المشاهد التسجيلية في مقدمة الفيلم على خلفية موسيقى نشرة الأخبار في التلفزيون المصري، توثق لتاريخ الأزمات المتلاحقة ومصحوبة بتعليق صوتي للإعلامي حمدي قنديل كاشفاً عن جذور الأزمة اللبنانية المرتبطة بنشأة إسرائيل وهجرة الفلسطينيين إلى لبنان، والوجود السوري وتكوين الميليشيات وتأسيس حزب الله وجيش جنوب لبنان والاجتياحات الإسرائيلية المتكرّرة ومجازر صبرة وشاتيلا وضلوع إسرائيل فيها، ثم الخروج الفلسطيني من لبنان، والتفجيرات ضد القوات الفرنسية وقوات المارينز الأميركية وغير ذلك من الأحداث الدامية التي عاشتها لبنان خلال تلك الفترة وخلفت وراءها آلاف القتلى.
سألت مخرج الفيلم عن ذلك المعادل البصري التوثيقي المهم في سرديته السينمائية، فأجابني أنه كان معنياً بالربط بين كل ما يحدث في لبنان والأيدي الإسرائيلية التي حركت ذلك كله للوصول إلى نهاية الفيلم بأن خلاص لبنان مرهون بمواجهة إسرائيل وإخراجها من المشهد اللبناني كله، ولم تكن أحداث الفيلم تتحمل هذه التطورات المتلاحقة، ولذلك فكر فى تلك المشاهد التوثيقية مدعومة بصوت الإعلامي حمدي قنديل الذي رحب بالفكرة من دون أدنى تردّد لتضيف إلى الفيلم عمقاً مهماً وتأصيلاً ضرورياً لجذور المحنة اللبنانية الدائمة.
يشار إلى أن حمدي قنديل (1936 – 2018) كان في ذلك الوقت زوجا للمثلة نجلاء فتحي بطلة فيلم "عزيز عيني" أو بطل من الجنوب والتي انسحبت تماماً بعد ذلك الفيلم من الساحة الفنية من دون أن تعلن رسمياً اعتزالها الفنّ، ولم يكن قنديل يدري وهو يستعرض تاريخ تلك المحنة اللبنانية مع بدايات الألفية الجديدة، أنها لن تتوقف ما دام اللاعبون القدامى وآخرون جدد يصرون على تصفية حساباتهم واستعراض قوتهم فوق الأراضي اللبنانية وعلى مذبح الشعب اللبناني الذي يدفع الثمن باهظاً كل يوم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها