في 16 شباط 1992، وفي خلال عودته من بلدة جبشيت الجنوبية العاملية، حيث كان أمين عام حزب الله عباس الموسوي يحيي الذكرى الثامنة لاغتيال الشيخ راغب حرب، أطلقت مروحيتان اسرائيليتان من نوع أباتشي صواريخ على موكب الموسوي وكان برفقة زوجته وابنه، فقُتل على الفور.
كان لاغتيال الموسوي أثر بارز في طبيعة المواجهات بين إسرائيل وحزب الله، كما يشرح نيكولاس بلانفورد في كتابه "المارد الشيعي يخرج من القمقم/ 30 عاماً من الصراع بين حزب الله وإسرائيل"، إذ "اتخذ الحزب لأول مرة القرار بقصف المناطق السكانية شمالي فلسطين المحتلة بصواريخ الكاتيوشا"، بعدما كانت عملياته تقتصر في السابق على الأراضي اللبنانية. اختير نصرالله لزعامة الحزب بعد ساعات من اغتيال الموسوي. وكان نصرالله آنذاك في الثانية والثلاثين من عمره، وهو الابن التاسع لعائلة لا باع لها في السياسة ولا تنتمي الى حلقة العائلات الدينية الشيعية البارزة. فبرز نصرالله في تركيبة الحزب كواحد من المتكلمين الأساسيين باسم الحزب، وأيضاً كقارئ نهم، وسبق أن كلفه مؤتمر الحزب في أيار 1991 بتولي مهمات التعبئة الفكرية للحزب.
"أنت أهل لذلك"
يقول السيد نصرالله إنه خلال تولّي السيد الموسوي الأمانة العامة، كان يكلّف السيد نصرالله تمثيله في الاحتفالات والمهرجانات واللقاءات الحزبية، في حين أن هذه الأمور تنظيمياً تقع ضمن مسؤولية الأمين العام الذي يتوجب عليه التصدّر لمواقع القرار والخطاب السياسي. وحدث أن وجه السيد نصر الله سؤالاً للسيد الموسوي عن سبب تكليفه بهذه المهام، فكان جواب الموسوي: "أنت أهل لذلك، أما أنا فإن المسألة عندي لن تطول..".
ويقول نصرالله أنه لم يفهم في ذلك الوقت معنى كلمة الموسوي إلا بعد فترة وجيزة، أي عندما استشهد الموسوي بتاريخ 16 شباط 1992. رفض نصرالله انتخابه خلفاً للموسوي لأنه كان يبلغ من العمر 32 عاماً وكان الأصغر سناً بين المجموعة المؤسسة لحزب الله، لكنهم أصروا، فاستجاب وأكمل ولاية الموسوي التي انتهت العام 1993 ليعاد انتخابه مرات عديدة بعد ذلك.
(نصر الله في المراحل الأولى من صعوده في "يوم القدس" في الأوزاعي 1986)
تحت قيادة نصرالله، نفذ حزب الله سلسلة من العمليات النوعية والاستشهادية ضد إسرائيل، مما ساهم في تعزيز مكانته وحضوره. هذه الفترة شهدت أيضًا توسعًا في القاعدة الشعبية للحزب في لبنان، حيث أصبح نصرالله رمزًا للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. وكان له دور كبير أيضاً في تدبير عمليات تبادل لإعادة أسرى لبنانيين وعرب، وجثامين مقاومين كان الاحتلال يحتجزها. كما أن الدعم المالي الإيراني مكّن نصرالله من توفير خدمات الرعاية الاجتماعية والرفاهية، للعديد من الشيعة اللبنانيين من خلال تشكيل شبكة معقدة من المدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية التي أصبحت أشبة بدولة.
كاتيوشا
في العام 1993، أخذ الصراع ضد إسرائيل منحى تصاعدياً، فأطلق الحزب صواريخ كاتيوشا من الجنوب ردّت عليها إسرائيل بعدوانيّتها المعتادة. سبعة أيّام من القتال أعقبها تفاهم غير مكتوب على وقف الصواريخ ووقف العدوان. كُتب في الصحف أن الحزب، الذي تفاهمت معه إسرائيل، ازدادت قوته وحضوره. في أيلول 1993، مع توقيع اتّفاق أوسلو الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، دعا الحزب إلى تظاهرة في الضاحية الجنوبيّة احتجاجاً على الاتّفاق المذكور. مشت مسيرة شعبية عند جسر المطار لرفض اتفاقية أوسلو والتنديد بـ"عارِ السِّلم والانبطاح". كانت تظاهرة الحزب "مِن أجل الدفاع عن الأرض، السيادة، الأمّة، وعن مصير الأجيال"، بحسب السيد نصرالله، واصطدمت بالجيش. إسقاط أوسلو كان قناعة إيران وسوريا وحزب الله، ولم يطُل الوقت حتى نشبت حرب 1996 أو "عناقيد الغضب"، ووقعت مجزرة قانا التي هالت الرأي العام العالمي، فاشتغلت دبلوماسية الرئيس رفيق الحريري، وجُدّد اتّفاق 1993 في "تفاهم نيسان" المكتوب هذه المرّة. وباتت لبنان علناً بين خطين: "هانوي" أو "هونغ كونغ".
ترافقت قيادة نصرالله لحزب الله مع تطور دور الحزب على المستوى السياسي الداخلي في خوضه الانتخابات النيابية في العامين 1992 و1996. في البداية، وجد الحزب صعوبة في اتخاذ قرار المشاركة في انتخابات 1992 أو عدمها، كان على السيد خامنئي التدخل ومنح الشرعية للمشاركة. وانخرط الحزب في العملية السياسية الداخلية، في ما درجت تسميته "لبننة" الحزب الإيراني، مع ما تحمله اللبننة من التباس وتوهمات، ربما يمكن اختصار المشهد بمقولة "الثورة والدولة" في آن، إلى جانب حلم الجمهورية الاسلامية، يقول نصرالله في سيرته: "ولست أنكر أن رغبة حزب الله هي أن يقيم نظام جمهورية اسلامية يوما ما، لأن حزب الله يعتقد أن اقامة حكومة اسلامية هي الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار لمجتمع، وهو الطريق الوحيد لتسوية الخلافات الاجتماعية، حتى في مجتمع مكون من أقليات متعددة، مع ذلك، فان إقامة جمهورية اسلامية ليست أمراً ممكنناً بالقوة والمقاومة، إنه يتطلب استفتاء وطنياً".
وساهمت خطابات نصرالله في تعزيز مكانة حزب الله كعنصر فاعل في الحياة السياسية اللبنانية، وساعدت في بناء صورة الزعيم المتواضع الشعبي، و"الساحرَ" الذي رآه الفيلسوف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الألماني، ماكس فيبر، شرطاً لزعامة الزعيم، وصاحب الكاريزما التي تعني وفقًا لفيبر أيضاً. فالكاريزما هي قدرة الفرد على التأثير في الآخرين إلى الحدّ الذي يجعله في مركز قوّةٍ بالنسبة إليهم، ما يمنحه حقوقًا سلطوية نظرًا لقدرته على التأثير. والحال أنّ الكثير من العروبيين واليساريين وجدوه بديلاً عن عبد الناصر، ووجد آخرون في حزب الله بديلاً عن منظمة التحرير في تبني القضية الفلسطينية. أقلام فكرية كثيرة كانت قد بدأت تتماهى مع نصرالله على الرغم من الخصومة مع حزب الله.
يتحدّث الباحث وضاح شرارة عن اختلاط الأمين العام للحزب، بالناس، وقربه منهم وتعاطيه مع القيادة بوصفها تعبيراً عن الناس وحاجاتهم وحرصه الدائم على ان يتكلم بلغة يفهمها العامة. ففي مخاطبته الحشود، غالباً ما احتفظ نصرالله بورقة صغيرة ينظر اليها بين الفينة والأخرى ويضمنها مخططاً لكلامه بالنقاط، يوزع فيه الأفكار على أبواب، في حين يأتي الكلام منساباً من دون تعقيد ومع حرص كبير على أن يكون مفهوماً للجميع. الخطاب الذي استخدمه نصرالله كان يصدر عنه متناسباً تماما مع طبيعة المجتمع الشيعي الذي عانى تمزقاً اجتماعياً وسكانياً بفعل الحرب المتواصلة مع اسرائيل وموجات التهجير المتلاحقة. ولم يكن مستغرباً التجديد المتواصل لنصرالله على رأس حزبه، وابتكار هتافات خاصّة به، ودخوله في خانة التقديس...
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها