"كيف يمكن الكلام عن صوت؟ وكيف إذا كان صوت فيروز؟"، يسأل الباحث فواز طرابلسي في كتابه "فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز والأعجوبة"، ولا يقدم جواباً. و"كيف تصف صوتها وأنت في حضرته غائب؟"، يقول الشاعر أنسي الحاج في وصف صوت فيروز(*)، وهو يحبها بـ"ارهاب" ويتمنى لمس صوتها، فبالغ في إضفاء الأوصاف على صوتها إلى درجة الكمال: "بعض الأصوات سفينة وبعضها شاطىء وبعضها منارة، وصوت فيروز هو السفينة والشاطىء والمنارة، هو الشعر والموسيقى والصوت، والأكثر من الشعر والموسيقى والصوت، حتى الموسيقى تغار منه". و"كل هواء يظل أضيق من صوتها. كل تعبير يظل غير لائق بصوتها." و"صوتها الذي أشتهيه أكثر مما أشتهي أن يطول عمري".
كانت فيروز معبودة أنسي الحاج، ورسولة "بشعرها الطويل حتى الينابيع"، وكان هو "شعوب من العشاق"، وشطح في توصيفها الى حد اعتبار أن صوتها قد يوقف الحرب والعنف. بمعنى آخر، كان صوتها بالنسبة إليه طريقاً الى الخلاص اللبناني وحتى الكوني، ويتطابق وجدان أنسي مع ما قاله أحد السفراء الأوروبيين وكتَبه نبيه البرجي(*): "تريدون خلاص لبنان؟ لتكن هذه الأيقونة/الملكة".
لم يكن أنسي، صاحب "لن"، وحده الذي بالغ في مديح فيروز والثناء على نغماتها وألوان صوتها، لكنه تفرّد في الكلام عنها بنوع من العبادة. شعراء كثر كتبوا عنها، كانت تعابيرهم المجازية واستعاراتهم غوصاً في روض اللغة لإيجاد كلمات تصف صوتها "الذي لا تعريف له"(عبد الغني طليس). ربّما لم يخطئ أنسي حين قال: "صوتها يطبع اللحن. الأغنية تصبح، حين تنشدها، فيروزية. كأن صوتها يلحّن اللحن". فثمة تقارب وتطابق في التوصيف بين بعض الشعراء والفنانين والنقاد في هذا، فقال نزار قباني: "قصيدتي، بصوتها اكتستْ حلة أخرى من الشعر"! وقال محمود درويش: "هي التي تجعل الصحراء أصغر، وتجعل القمر أكبر". وقال محمد الماغوط: "حين يأتيني صوتها أغدو ذلك الآخر الذي يراقِص برَدَى بدلاً من هوايتي القاتلة في مراقصة العدم".
ويقول الموسيقي سليم سحاب إن صوتها "عصي على أي تقليد... شفاف يجعل أي مستمع في حالة من الغبطة والذهول والانخطاف الروحي"، و"ما تغنّيه (...) هو الشعر الذي يدخل على الحياة العادية أو الحياة العادية التي تتحوّل شعراً"، بحسب الشاعر عباس بيضون.
وليست فيروز مطربة فحسب، هي روح أخرى في الشعر، وفي معاني الأشياء وتحولها و"خلاصها" و"معجزة لبنانية" بحسب محمد عبد الوهاب الذي يضيف أن الغناء "لم يعرف صوتًا أرق من صوتها ولا أجمل، صوتها كخيوط الحرير، وأشعة الفضة، كما أنه لم يحدث أبدًا أن استطاع شاعر غنائي أن يؤدى الشيء الذي قدر عليه الأخوان الرحباني، من سرعة في إيصال الكلام، كلام سريع، موسيقى سريعة وممتعة، وفيروز كل هذا.. جملة واحدة استطاعت أن تشكل هذه المعجزة الغنائية".
وقصة سِحر الصوت الفيروزي، بدأت من البدايات. منذ اكتشفها الأخوان أحمد ومحمد فليفل وهما موسيقيان ولهما ألحان وطنية وشعبية وحزبية، ثم ما لبث هذا الإعجاب أن انتقل إلى الموسيقار حليم الرومي الذي كان مدير القسم الموسيقي في إذاعة "الشرق الادنى"، ومارس صوتها تأثيره منذ خضوعها لامتحان القبول في الإذاعة اللبنانية على يد الرومي الذي كان يتولى أمر الامتحان. فما أن بدأت الغناء، حتى رمى العود من يده ووقف يصغي إليها مذهولاً، وضمها إلى كورس الغناء في الإذاعة، وهو الذي أطلق عليها لقب فيروز وغنى معها بعض الأغنيات التي كتبها ولحنها بنفسه، ووصف صوتها بالقول: "فيروز صوت غير محدود بمقدرته الفائقة لكل الألوان الغنائية وسيتميز في المستقبل القريب بأنه أقدر صوت على غناء الألحان الحديثة في العالم".
أما مع الرحابنة، فكانت العلاقة بين التردّد في البداية ثمّ الإعجاب الأسطوري، إذ صارت ركناً من الثالوث الغنائي. كتب الراحل عاصي الرحباني في مجلة "أهل الفن"، عدد تموز 1955، أنه كان يعدّ برنامجاً موسيقياً غنائياً للإذاعة اللبنانية، وذات يوم دعاه حليم الرومي للاستماع إلى صوتٍ جديد، فرأى فتاة صغيرة تمشي مع والدها (وديع حداد)، وتحمل كتاباً، فلما استمع إلى صوتها وصفه بأنه "لا بأس به"، وآمن بأنها تصلح للغناء الراقص، بينما رأى شقيقُه منصور أنها لا تصلح له على الإطلاق! وقال عاصي إنه، مع ذلك، بدأ يعلمها، فكانت، في المحصلة، أحسن من غَنَّى هذا اللون على الإطلاق.
بيد أن منصور الرحباني لم يتمسّك بذلك الرأي زمناً طويلاً، فبعدما تبناها مع عاصي، وأبدع لأجلها أجمل الأشعار والألحان، سئل عن رأيه فيها، فقال: "عدا جمال صوتها وموهبتها الخارقة، هي ظاهرة لا تتكرّر: فصوتها مميز، وإطلاقة صوتها مميزة. وكل ما جاء من هذا الصوت من خوارق، وما خلف هذا الصوت من صقل وتجارب خضع لها، جعل منه رمزاً من رموز هذا العصر"... و"جاءت فيروز ذات الحضور الآسر والصوت المفرد، فانضمت إلينا، أصبحنا ثلاثة. وراح صوتها يخترق الحواجز العاطفية، ويرسّب في لاوعي سامعه الأفكار التي يحملها".
اشتغل الأخوان رحباني وفيروز على الصوت والكلمة، وتحولت فيروز من فتاة كورس مغمورة إلى أسطورة في مدى العالم العربي. ويحتاج وصف أغانيها وصوتها إلى مطولات، ربّما يقدم مختصراً عنه الروائي الياس خوري الذي لا يبتعد عن مجازات الشعراء واستعاراتهم، إذ يقول: "الأغنية الفيروزية الرحبانية مصنوعة من شعر عامي ساحر الإيقاعات، ومن صوت يجمع الحلاوة إلى الخفر ويتدرج في تلاوين المخمل. هذه الأغنية المسبوكة في شعر عامّي مصفى ومرمّز، كشفت لنا الجماليات المخبأة في لغات العرب، كما أخذتنا إلى عالم حلمي فيروزي الألوان ومائي الإيقاع، أوحى ولا يزال يوحي بأن المنام أجمل من اليقظة، وبأن السحر بديل الواقع"، و"فيروز امرأة الينابيع" و"أشبه بقصيدة مزجت سيريالية جورج شحادة برمزية سعيد عقل وسلاسة ميشال طراد، ليصنع عاصي ومنصور الرحباني من هذا المزيج صورة تشبه أيقونة بيزنطية ناطقة".
ويعتبر صوت فيروز حالة جمالية و"ما فوق جمالية" قادرة على التأثير ومشحونة بالعواطف، فيشكل الصوت الفيرزوي جزءاً من جو المنزل ويقترن بذكريات الطفولة والمكان. وتصف الكاتبة مي الريحاني نموذجاً للانبهار الصوتي في تغطيتها حفلة فيروز في الكيندي سنتر(واشنطن 1981)، فتقول: "ويصيب الجمهور طرف من هستيرياـ تصفيق، صفير، صراخ، بكاء، فرح"...
لا جدل في القول إن صوتها أمسى إنجيل المثقفين، الى حدّ أن أحدهم همّش دور الأخوين رحباني واعتبر فيروز الأساس والظاهرة.
(*) جملة في الأصل تنسب للمتصوفة رابعة العدوية.
(*) عنوان مقالة وردت في كتاب "وطن اسمه فيروز".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها