بين مواضع أخرى كثيرة في الخريطة المصرية، تأخذ القاهرة موضعها في أطلس للركام، يمتد من سوريا إلى غزة ومؤخراً يتوسع من جنوب لبنان إلى شماله. ببطء، لكن بثبات، يتراكم الخراب مصرياً، لا بفعل حرب أهلية ولا بحكم قصف من السماء بالقنابل الخارقة للتحصينات، إنما بفعل سياسات اقتصاد الأسفلت الذي يدمر العمران وذاكرته ويمحو الأخضر وظلاله لصالح شبكة مبطنة بالقار تسرّع تدوير البضائع والأيدي العاملة لصالح تراكم رأسمال المال.
الركام غدا أيقونة لمنطقتنا، وعلامتها المميزة. وبينما تنقل شاشات الأخبار صور قطاع غزة المغطى بتلال الأنقاض ومثلها صور من ربوع لبنان، يتداول المصريون منذ أيام، صوراً لقباب ومدافن محطمة وكأنها مقتطعة من مشهد حرب. في ألبوم الخراب هذا، ثمة صور تم تداولها لهدم كنسية حوائطها مزينة بزخارف تقليدية بسيطة بديعة، وبجانبها صور لتشييد هيكل خرساني محلها. بيان الإدارة الكنسية القبطية يشير إلى أن الكنيسة المهدومة تقع في إحدى قرى مركز ملوي في صعيد مصر وتعود إلى عقد العشرينيات، أي مر على بنائها حوالى المئة عام. تعيد تلك المشاهد ذكريات بعيدة.
كان ذلك في مطلع الألفية، وكنت حينها مهندساً إنشائياً حديث التخرج، أعمل في شركة متوسطة يملكها أقباط، ومحل عملي كان في مجمع خرساني كبير بمقاييس ذلك الوقت، وهو ما أصبح لاحقاً مجمع "سيتي ستارز" في حي مدينة نصر شرقي القاهرة. وبعد شهور من عملي، عُهد إلي بمهمة خاصة وشبه شخصية، كان مُلّاك الشركة يسددون "عشورهم" في صورة خدمات مجانية للكنيسة، وكانت مهمتي واحدة منها. في الصباح الباكر، وبعد الفجر بقليل، انطلقت بي سيارة العمل مع آخرين إلى بلده صغيرة نسيت اسمها، وإن كنت أتذكر قربها من مدينة القناطر الخيرية، هناك حيث شيد الخديوي سعيد واحداً من أول المشاريع الهندسية الحديثة للري في مصر، منتصف القرن التاسع عشر. عند وصولنا، فهمت لماذا كان علينا التحرك في الظلام، فدخولنا إلى موقع العمل كان يجب أن يكون خلسة. خطَونا داخل الكنيسة الصغيرة بخطوات متمهلة، وفي الظلام كان كل ما يمكننا تبيّنه هو الرائحة.
للكنائس القبطية القديمة رائحة مميزة، أدّعي أن شيئاَ لا يشبهها، عقود متراكمة من روائح البخور والحرائق الصغيرة من فتائل الشموع، ولعل تلك رائحة الكنائس بالعموم، إنما تُضاف إليها طبقة أخرى، رائحة رطبة وجيرية مُطَمئنة وجالبة للسكينة، تشع من الحوائط الحاملة المبنيّة من الطوب.
ما كنا نفعله كان غير قانوني أو على حواف القانون. حصلت الكنيسة على تصريح بالترميم، لكن ما حدث كان أبعد ما يكون عن هذا. في تكتم، صُبّت قواعد خرسانية لكنيسة أكبر داخل الكنيسة القديمة، وشيدت سلسلة من الأعمدة للمبنى الجديد في داخل المبني القديم الذي بقى على حاله حتى هذه اللحظة. سمح تصريح الترميم بدخول مواد البناء، والمعدات تسير بلا منغصات، أما الخطة الأشبه بخدعة سحرية تلفزيونية هائلة الأبعاد، فكانت أن يستيقظ الجميع في الصباح فيجدوا الكنيسة القديمة وقد اختفت تماماً من العالم، وظهر مكانها الهيكل الخرساني لبناية أسمنتية متعددة الطوابق. كانت مهمتي تتلخص في مراجعة التفاصيل الفنية قبل أن يتم الهدم.
سألتُ قس الكنيسة الذي كان حاضراً، عن الدافع وراء كل هذا، فأخبرني إن المبنى القديم لم يعد يتسع لرعية الكنيسة التي تضاعفت مرات عديدة عبر السنين، والسلطات تعنتت في منح المطرانية تصريحاً ببناء مبنى جديد، واحتاج الأمر أكثر من عشرين عاماً لإصدار ترخيص بالترميم (حينها كان تصريح ترميم كنسي يستلزم قراراً من رئيس الجمهورية شخصياً). كان الأمر بالنسبة إليه مقامرة صفرية، فإما أن يخسر القس كنيسته بالكامل أو أن يربح بناية أكبر بأربع مرات. ولم يظهر لي أن الأمر يرتبط حقاً بتعداد رعية الكنيسة، بقدر ما تعلق بإحساس بالغبن. تجولت في الكنيسة وشعرت ببعض الأسى، كانت البناية جميلة بما يكفي، لكن لا شيء مميزاً فيها بشكل خاص، الأيقونات المرسومة على الجدران مباشرة بأسلوب فطري وغير معهود كانت الشيء الوحيد الجدير بالانتباه.
حضرت مرة أخيرة، وعاينت المشهد والركام متناثر حول الأعمدة العارية، وبدا مثل مشهد انتقامي أو تخريب متعمد، كأنه جزء من لعبة أذى ذاتي لطائفة تشعر أنها مضطهدة وتريد إثبات أنها تستطيع انتزاع بعض حقها، بأي ثمن.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها