الشغف أصل الإبداع
في حكاية العرض، تصمم العطارة (رمروم) بالحب والإلهام عطراً سحرياً، يقع بعضهم تحت تأثيره في تجربة عودة إلى عالم الطفولة، ومنحت عطرها عنوان 284، وهي المدة الزمنية التي قضتها الممثلة في الاعتقال السياسي. يضيف العنوان قضية تحول الإنسان-الذات إلى رقم سواء في معسكرات الاعتقال أو في طوابير اللجوء، ليفقد هويته وذاته رويداً رويداً، وهنا تأتي غاية الحكاية المسرحية، وهي الدعوة للدفاع عن التميز وعن رحلة البحث عن الذات بين كل من الممثلات. وتترافق تجربة العودة إلى الطفولة من أثر العطر 284 مع إلحاح أسئلة رغبة العودة من عالم الطفولة أو البقاء في إثارها، فيتوقف الوقت ويصبحن عالقات في عصر سابق.
إن سرّ إبداع العطارة رمروم، الذي يمكنها من ابتكار العطر السحري، هو الشغف. فهي لا تلبث أن تكرر في الحكاية المسرحية جملة مفتاحية: "كل شي منعملو بحب بيطلع غير شكل، العطر متل كل شي، إذا انعمل بحب بيطلع روعة". المسرحية تجعلنا نذهب إلى رواية "العطر" لزوسكيند، ففيها يظهر أيضاً التفاني، والشغف، والرغبة - السر الأساسي للوصول إلى ابتكار أكثر العطور تأثيراً في مجريات الحياة والتاريخ. تقول سيدة لصانع العطر: "أنت فنان بحق"، فيجيب: "الإلهام يتطلب الأمن والسكينة". فالإبداع مزيج بين التجربة، الفكر، والشعور، تماماً كما يكتشف "غرونوي" بطل رواية "العطر"، أن العطر الأمثل يتكون من ثلاث تركيبات، واحدة تتعلق بالعقل والأخرى بالعاطفة والثالثة بالزمن، إنه تماماً مضمون العديد من مقولات العرض المسرحي حيث تتباين حكايات الممثلات بين التجربة والشعور، بين التفكير والعقل، بين الفعل والإرادة، ما يقارب الإبداع المسرحي والفني.
العطر الأثر في عوالم الطفولة والذاكرة
في المشهد الثالث من المسرحية، وتحديداً في حفلة عيد الميلاد، محاولة لإمساك الزمن، وتظهر أسئلة الشخصيات بين العمر واللحظة: "في هذه الضجة تدخل وفاء وتقول: هابي بيرثدي لالك وروقلي اعصابكم خلينا ننسى العمر ونشم العطر". في المشهد الرابع (الرجوع الى الطفولة) يقع الجميع تحت تأثير العودة إلى عوالم الطفولة من أثر العطر، لتفتح الطفولة في الحدث المسرحي على اللعب، اللهو، والأحلام في الطفولة، لكن أيضاً على الذاكرة والنسيان، والحياة التي تمضي بإختيار أو بإجبار:
"يتجمع الكل حول الأم ويشممن العطر ويشعرن به ويبدأن بتفقد أنفسهن وأيديهن وأجسامهن، ثم يمشين في المكان، كل امرأة لوحدها تتفقد رفيقتها ثم المكان، وتخاف وتعود لتشكيل كتلة مرة أخرى:
فاطمة: أنا ما بدي اتجوز
لارا: انا بدي روح على كل الرحلات
وفاء: انا بدي ضل طفلة ما بدي اكبر
إسراء: ما أرضي الكل وبدي أعمل اللي بحبه
رنا: ما بدي أكبر بدي إلعب
(يبدأن باللعب، يأخذن الشال عن الحبل ويلعبن حبلة غميضة، يركضن فرحات ويلعبن معاً)
وتتشكّل على المسرح أمام المتلقي مجموعة من الأداءات الكوريوغرافية التي ترمز إلى رحلة الشخصيات في عوالم الطفولة، لتركز على مفهوم المكان في الطفولة، حيث التجربة الراهنة المتعلّقة بفقدان الانتماء إلى المكان، تجعل من أمكنة الطفولة ملجأ مثالياً للذوات التائهة. على المستوى الكوريوغرافي، تبدأ المجموعة بتشكيل الخيمة، يشكلن خيمة قادمة من ذاكرة الطفولة. هنا أيضا نعود إلى حكاية طفولة "غرونوي"، لقد ولد في أكثر الأماكن المهمشة والنتنة في شوارع باريس السفلية، ولا تبدو موهبته التي اكتشفها في ابتكار العطور الجميلة والفاخرة إلا نوعاً من البحث عن الإنتماء إلى طبقات التمتع بالجمال والفنون والعطورات. ابتكر العطور وطور حاسته الشمية ليهرب من الواقع المزري المحيط بمسيرة حياته.
وكما هي حال الشخصيات في "عطر العمر"، فإن العطار المبدع في الرواية يشعر بالاغتراب عن العالم، بالدونية في الهوية، بالنبذ من الكلي والعام: "وبعُمرِ الخامسة، كان غرونوي مازال عاجزاً عن الكلام، لَكنَّه ولدَ بموهبةٌ جعلته فريداً بين أقرانه". وفي حكاية "عطر العمر" يبدو العطر ذا أثر مزدوج، فهو يعيد الشخصيات إلى الطفولة، لكنه في الآن عينه يشكل وعيها، وتصبح أمام خيار البقاء في أثر العطر السحري أو فك التعويذة التي تبقي الشخصيات النسائية في الماضي. وذلك على العكس، من رواية "العطر"، فبطلها مهووس بامتلاك السلطة التي يمنحها أثر العطر. ففي حين تسعى شخصيات المسرحية للخلاص من الأثر السحري للطفولة المتدفقة من العطر، فإن غرونوي يبحث عن امتلاك القدرة المطلقة في ابتكار الآثار السلطوية للعطر على الجميع.
تقرّر الشخصيات النسائية في المسرحية التخلص من أثر العطر السحري والعودة إلى الواقع، بقرار من الفاعلية في تشكيل المصير والمستقبل. في المشهد الثامن بعنوان "ليش بدي أرجع؟" تنطلق الشخصيات في التعبير عن أفكارها، مشاريعها، هواجسها، وإرادتها، وكذلك علاقتها مع أنا الماضي وأنا المستقبل:
"محاسن: بدي ارجع لحتى كمل وحقق حلمي
حواء: تخطيت كتير، بس في حلم ناطرني
كايدة: بدي ارجع حب وغني
رنا: بدي كمل مصيري
لارا: ما صدقت وصلت.. ما بدي ارجع للصفر
(يشكلن لوحة)
إسراء: هيدي تجربتي ومنا صرت أنا
فاطمة: بدي اكسر هالدائرة لأمنعهن يبيعوني ويكسروني
وفاء: الماضي علمني كون بالحاضر والمستقبل ناجحة
آية: الزمن ما بيوقف عند حدا بدي اعمل آية جديدة
إيمان: احلامي بالماضي تحطمت عندي احلام جديدة بدي كملها
نغم: بدي ارجع لأكون قوية
روز: انا الكل بهالدني الماضي، الحاضر، والمستقبل ممنوع اوقف بمرحلة وحدة
كوثر: الماضي راح ما فيني غيرو ولا فيني انساه، بس فيني عيش الحاضر وغيّر المستقبل ومستقبلي مليان احلام
(تنتشر المجموعة في المكان من أجل البدء بالرقصة).
بطاقة العرض:
الفرقة: فاطمة السعدون، سميرة الحجلي، فايزة الشلال، كوثر شعبان، رنا مرعي، عفاف النجار، آية خولاني، كايدة الساروط، ريم اللحام، وفاء معضماني، إيمان المضحي، هبة سكري، نغم محمد، روان شحادة، محاسن مدللة، إسراء العبدالله، لارا لميس، حواء نتوف، روز ملو.
إخراج: زينة ابراهيم.
مساعد مخرج: فداء الوعر.
تنسيق المشروع: رنا خلج.
تصميم الإضاءة: أنطونيلا رزق.
بوستر: رواد كوركيس كنعان.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها