في وسط المسرح، يتلو روجيه عساف مقاطع من قصائده الخاصة بالمدينة: "أنا في صف المتفرجين، بيروت هي المسرح والمسرحية، العرض مأسوي، أبكي". تحضر بيروت في قصائد المؤديَين وفي مضمون المسرحية كمدينة تعيش لحظة مأسوية، لكنها مدينة موضوعة للهوى والعشق. وكما ستتداخل في المسرحية طقوس الحياة والموت، الزوج والفراق، اليأس والأمل، ستبدو بيروت مدينة الانحدار وإعادة النهوض. يتابع عساف في فقراته الشعرية سرد العلاقة بين أناه وبين المدينة، هي مدينة آمن هواها، آمن بحكايتها بأسطورتها، تمنى أن يكون شالاً على كتفها، أن يمسح آلامها، وأن يدهن جسدها بالنجوم. العرض مرثية لمدينة تعيش عرضاً مأسوياً كما ورد في قصائد عساف، لكن العرض في الآن عينه يقدم احتمالات استعادة قوتها وألقها. يقدم البروشور، العرض، بالنص التالي: "زوجان حبيبان يفتحان باب المدينة، يسيران في شوارعها، بين بقاياها، بقايا ذاكرتهما، بقايا الفرح، بقايا مسيرة حياة، بقايا عرض راقص، بقايا مأساة أهل في بيروت. المدينة التي تهوى، تهوي أمام أعيننا، ولكن ما زالت تنبض فيها عيون تعشق وقصص حب مسرحها قلب أم وقلب أب".
الهوى والهواية بين الحبيبة والمدينة
تتداخل في الفقرات الشعرية التالية التي يتلوها عساف، المدينة بالحبيبة، فتتحوّل حنان الحاج علي، المدينة التي يسعى العاشق في هيامها، وتتحول بيروت إلى تلك العشيقة التي يتمنى العاشق وِصالها: "أريد أن أكون سفراً، سلاماً، ساحراً". ويتابع المناضل المسرحي العاشق الحبيب قصيدته: "لكني لست إلا أنا، أنا وحسب لا أكثر ولا أقل، متشرد، متسكع، يرتدي كلمات قد لمها من هنا وهناك". يتخلى الممثل عساف عن عكازه، ويؤدي حركات الطيران، الحلم مشرعاً ذراعيه في الهواء، ثم ما يلبث أن يتهاوى، العشق الطيران الهوى والسقوط مفاهيم حاضرة باستمرار في التصاميم الحركية للمخرج علي شحرور، كما في عرضه "ليل"(2019).
في العرض الحالي، تتداخل مرثية المدينة بمرثية جيل، جيل من الفنانين/ات، المسرحيين/ات، العاشقين/ات. يتمدّد عساف في مقدمة أرضية المسرح كما الجثة، وبصرخة تجمع النحيب الإنساني بالامتداد الصوتي الإلكتروني (موسيقى عبد قبيسي) تندب حنان الحاج علي رحيل المبدع ورحيل المدينة رحيل الإبداع، وكما في عروضه المسرحية السابقة يدمج علي شحرور في الطقوس الاجتماعية بين التعبير عن الحزن والفرح، بين طقوس التشييع والولادة، وفي هذا العرض يصبح التشييع زفة عرس، فينهض جسد المؤدي عن الأرض ليؤدي رويداً رويداً رقصة العريس، بينما تحمل العروس على الأكتاف التي تؤدي من فوقها رقصة العروس. إن الزفة التالية لحدث الموت، تماثل لقاء الحبيبين في العالم الآخر، أو نهوض الأمل من اليأس في العالم الحالي.
إنه الحب الثنائي بين العاشق والمعشوقة، كما هو اللقاء الثنائي بين نهاية المدينة ونهوضها مجدداً. أما الأداءات الحركية فتتداخل في تأويلات المتلقي رقصة الدبكة، برقصة زوربا اليونانية، برقصة العروس الشامية.
طقوس الموت والحياة، التشييع والزفاف
تستعيد قصيدة المؤدي روجيه عساف علاقتها بالمدينة: "أشاهد التلفاز، في خطاب لأحد أولئك السياسيين، وأتقيأ"، بينما تؤدي حنان الحاج علي رقصة المولوية، بدوران مستمر حول حضور الشاعر في منتصف المسرح، تنفصل عنه لتبني مسارها الخاص، بينما يتراجع الشاعر متقهقراً من ألمه على حال المدينة، بأداء يجمع بين الألم والخسارة، بين السقوط والتراجيديا، ليستقر في أقصى عمق المسرح.
وكما في دورات العرض المسرحية المتناوبة بين القاع والذروة، بين السقوط والنهوض، بين الانهيار وإعادة البعث، فإن الشاعر يقول: "لست أنا بميت، ولست بحي"، بينما تردّد الحاج علي من الطرف الآخر لخشبة المسرح أبيات شعرية عن الأمل، عن نهاية المدينة وذروتها، عن البدايات والتتمات، وتقف منصوبة الذراعين أمام الشعاع الضوئي القادم من أقصى يمين المسرح، لينتهي العرض بمسيرة طويلة يقطعها عساف بين أقصى طرفي المسرح، ليستقر في أحضان الحبيبة المدينة التي تحضنه مع ستارة الختام. تلعب موسيقى العرض من تصميم عبد قبيسي دوراً محورياً في إيصال الإيحاءات للمتلقي، وفي بناء العالم السردي المسرحي، تتناوب بين التعبيرية للحركة وبين ابتكار عالم المعنى الموازي.
(*) كوريغرافيا وإخراج: علي شحرور.
أداء: حنان الحاج علي، روجيه عساف.
موسيقى من تأليف وأداء: عبد قبيسي.
العروض: من 9 إلى 12 آذار الجاري، 8,30 مساءً، مسرح المدينة- الحمرا- بيروت.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها