بمناسبة بلوغ المطران جورج خضر عامه المئة، نظّم معهد الدراسات الإسلاميّة والمسيحيّة في كلّيّة العلوم الدينيّة التابعة لجامعة القدّيس يوسف في بيروت ندوةً تناولت مسألة التجديد اللاهوتيّ في فكر المطران جورج خضر (٢٠٢٣/١٢/١). وتندرج هذه الندوة ضمن سلسلة محاضرات بعنوان "وجوه حواريّة".
افتتحت الندوة مديرة المعهد رولا تلحوق بكلمة قصيرة رحّبت فيها بالحاضرات والحاضرين، ونوّهت بالدور الثقافيّ الذي اضطلع به جورج خضر، وبما تهدف إليه سلسلة المحاضرات من مساهمة في الحياة الثقافيّة على الرغم من الظروف الصعبة التي يشهدها لبنان. ثمّ تلا عميد معهد الدراسات الدينيّة، الأب صلاح أبو جودة اليسوعيّ، كلمة رئيس الجامعة الأب سليم دكّاش، والتي عرّج فيها على بعض محطّات فكر خضر، ولا سيّما ذاك المتّصل بقضيّة فلسطين. وكانت مفاجأة الندوة محادثة قصيرة مع المطران المحتفى به سُجّلت قبل يوم واحد، وقد شدّد فيها على مركزيّة المحبّة والالتصاق بالمسيح والاستغناء عن كلّ شيء في سبيل خدمة الآخرين.
أوّل المتكلّمين (حضوريّاً) كان الأب غي سركيس، أستاذ اللاهوت العقائديّ في الجامعة، وقد تكلّم على نظرة خضر إلى الأديان الأخرى. أشار المحاضر إلى اعتقاد خضر بفعل كلمة الله وروحه، اللذين كتب عنهما إيريناوس أسقف ليون إبّان القرن الميلاديّ الثاني أنّهما «يدا الله»، في الأديان خارج المسيحيّة. هذا الحضور يربطه خضر خصوصاً بتعليم يوستينوس الشهيد والفيلسوف (القرن الثاني) عن الكلمة المبذور في الفلسفة، إذ يعتبره صالحاً للتعميم على الأديان، ولا سيّما على الإسلام الذي يضطلع، في رأي الأب غي، بمكانة خاصّة في مقاربة مطران جبل لبنان السابق. أمّا عن موقف خضر من اليهوديّة، فهو يترجّح، بحسب المحاضر، بين الإيمان بسماحتها وانتقادها على ما يظهره بعض المنتمين إليها من عنف. ويرى الأب غي أنّ موقف خضر من دولة إسرائيل انعكس على قراءته لليهوديّة. على وجه العموم، يعتصم خضر بالموقف الاحتوائيّ (inclusif) الذي يفسّر التجلّيات في الأديان غير المسيحيّة عبر نسبتها إلى المسيح والروح القدس.
الكلمة الثانية كانت للاختصاصيّ في علوم التأويل وجيه قانصوه (حضوريّاً)، وهو أستاذ محاضر في جامعة القدّيس يوسف. تركّزت المداخلة على مقاربة خضر للإسلام والمسلمين. ورأى قانصوه أنّ ما تمتاز به هذه المقاربة هي المعيّة أو «النحنويّة» (نسبةً إلى ضمير نحن) معتبراً أنّ خضر أخرج العلاقة الإسلاميّة المسيحيّة من شكليّة خاوية، وذهب بها إلى أفق الحوار المقترن بالمحبّة. فإذا كان هدف الحوار ليس اختراق المنظومتين الدينيّتين، إذ كلّ واحدة منهما تتّسم بكمالها من حيث منطقها الداخليّ، فإنّ هدفه، إلى جانب التوضيح والاستيضاح، هو اختراق التاريخ بالعقل النقديّ، وتشكيل الحاضر عبر مواجهة التحدّيات المجتمعيّة والسياسيّة والثقافيّة المشتركة. أمّا المحبّة، فتتيح للحوار أن يحتمل المعاتبة والتعبير عن الوجع والقلق، إذ تجعله قادراً على الشفافيّة. وعند قانصوه أنّ هذا القلق لم يكن على مصير المسيحيّين في الشرق فحسب، بل على أحوال المسلمين أنفسهم أيضاً.
المتكلّم الثالث كان جورج تامر (افتراضيّاً)، أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلاميّة في جامعة إرلنغن (ألمانيا). تمحورت مداخلة تامر على مفهوم «حارة النصارى» في أدب جورج خضر، وهو الذي وصّف نفسه أنّه «صبيّ فقير من حارة النصارى». وقد بيّن المحاضر كيف أنّ المفهوم الوضعيّ لهذه الحارة، والذي يعود إلى أحوال المسيحيّين بوصفهم أهل ذمّة في المدينة التي يحكمها المسلمون، يتحوّل لدى خضر إلى مفهوم إنسانيّ وروحيّ. فالحارة تشير، أوّلاً، إلى اجتماع المسيحيّين حول هذا الزخم الروحيّ المنبجس من موت مسيحهم على الصليب وقيامته والاجتماع حول جسده ودمه في القدّاس الإلهيّ. وهي تحيل، ثانياً، على انفتاحهم على من هم خارج هذه الحارة، ولا سيّما على جيرانهم المسلمين، الذين يتشاركون معهم في الحضارة ذاتها والجماليّات ذاتها في اللغة والأدب والفنّ، ويبنون وإيّاهم المصائر المشتركة. هكذا يبدو مفهوم الحارة مرتبطاً بالتاريخ، من طريق تذكّر الماضي، ومتجاوزاً إيّاه في آن معاً.
الجولة الثانية من الندوة افتتحتها ثريّا بشعلاني (حضوريّاً)، أستاذة اللاهوت المسكونيّ في جامعة القدّيس يوسف، بمداخلة عن فكر جورج خضر المسكونيّ. تقصّت المحاضرة في نصّها مساهمة خضر في وثيقة البلمند (١٩٩٣)، التي عالجت مسألة الكنائس الشرقيّة التي انضمّت إلى كنيسة الغرب الكاثوليكيّة، كالروم الكاثوليك مثلاً. ثمّ توقّفت بشعلاني مطوّلاً عند نصّ خطّه خضر العام ٢٠١٦ رأى فيه أنّ المسيحيّين جميعهم متّفقون على الإيمان بالمسيح والذات الإلهيّة، وأنّ اختلافاتهم تتّصل بالمفاهيم المستخدمة والاجتهاد اللاهوتيّ وشجون التاريخ، لكنّها لا ترقى إلى مصافّ الجوهر. أمّا المحطّة الثالثة، فكانت عن انخراط خضر في تعميق التعاون بين الكنائس على مستوى لبنان والمنطقة، ولا سيّما عبر دعمه لمشروع كتاب التعليم المسيحيّ المشترك الذي أُقرّ في دير الشرفة العام ١٩٩٦.
المتكلّمة الخامسة كانت سيلفي أفاكيان (افتراضيّاً)، وهي قسّيسة وأستاذة محاضرة في اللاهوت النظاميّ في جامعة توبنغن (ألمانيا). تناولت أفاكيان في مداخلتها موضوع ديناميّة الروح في فكر خضر مستندةً بشكل أساسيّ إلى كتابه «لو حكيت مسرى الطفولة» (١٩٧٩). أظهرت أفاكيان، في مداخلتها، كيف أنّ خضر، على الرغم من تثمينه المعرفة العقليّة والعلميّة، هو في خطّ الآباء الشرقيّين، الذين يعتبرون أنّ معرفة الله تقوم على لقاء القلب بالحضرة الإلهيّة. وعند أفاكيان أنّ لغة خضر الشعريّة، غير الوضعيّة والمعتنية بالاستعارة، تنسجم مع هذه المعرفة الروحيّة التي قوامها المحبّة. كذلك أشارت إلى أنّ حركة صعود الإنسان إلى الله، بعد نزول الله إليه بالمسيح، يقابلها في فكر خضر بعد ثالث هو حركة نزول الإنسان إلى العالم، أي إلى الآخرين، عبر تخطّي الذات. هكذا فإنّ ديناميّة الحوار مع الآخر هي صنو ديناميّة الروح في الإنسان.
الكلمة الأخيرة كانت للأب إيليّا متري (حضوريّاً)، كاهن رعيّة القدّيسين بطرس وبولس للروم الأرثوذكس في الحازمية، وقد تناول مسألة الرعاية لدى خضر. منطلق المحاضر لم يكن صفحات خضر «الذهبيّة» التي خلّفها لنا، بل حضوره الذهبيّ بوصفه أباً وأخاً وصديقاً. الأب هو من يقدّم أغلى ما عنده من أجل رعيّته، إذ لا يؤتى بالإنسان إلى مواقع القيادة في الكنيسة كي ينتفعوا بالمناصب أو يتدغدغوا بالسلطة. ولأنّ الكنيسة مجتمع بشريّ أيضاً، فأبوّة الأسقف تعني أنّها ليست مجتمعاً متروكاً. لفظة «الأخ» تنطوي، بالنسبة إلى المحاضر، على شيء من الندّيّة. فلئن كان المطران خضر يحيا في بيت معمّر بالكتب، إلّا أنّه يقعد مع مجالسه قعدة تلميذ يصغي ويتعلّم. هذا لا يأتي من طاعة المسيح فحسب، بل من حبّ خضر للمعرفة أيضاً. وتعني هذه الأخوّة أنّ المطران يعيش في بيت مفتوح للناس، ويستقبلهم بلا مواعيد. أمّا خضر الصديق، فصداقته لا تقتصر على أترابه في الكنيسة، بل تأخذه إلى الرحابة الإنسانيّة، إلى الناس أيّاً يكن دينهم أو مذهبهم أو معتقدهم. أعظم ما في جورج خضر، يقول متري، هو أنّه قادر على أن يحبّك في اختلافك، حتّى إنّه مقتنع أنّه لا يكمل من دونك. وختم الأب إيليّا بقوله إنّ قصده من هذه الكلمات هو أنّ رعاة الكنيسة الحقيقيّين، على شاكلة خضر، هم «الذين اجتمع فيهم الذهب في الكلام وفي الفعل».
بعد انتهاء الندوة، تفرّق المشاركون والحاضرون. أمّا كلمات جورج خضر الذهبيّة، فبقيت ملتصقةً بمقاعد الجامعة التي عرفته طالباً للحقوق فيها يقرأ القرآن الكريم والفلسفة، ويحلم بالمسيح ينفذ إلى كلّ ذرّة من ذرّات الثقافة العربيّة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها