نادراً ما نجد فيلماً شخصياً أكثر من هذا، إذ قضت المخرجة السورية ديانا الجيرودي أكثر من 20 عاماً في العمل على "جمهورية الصمت"(*)، منها أكثر من سبع سنوات داخل غرفة المونتاج، تحاول لملمة قصتها الشخصية التي شكلتها الديكتاتورية والحروب والخوف. تتأمّل في فيلمها مأساة سياسية ذات أبعاد ملحمية وتناقضها مع فسيفساء من اللحظات الشخصية العميقة.
الوقت يمكن أن يشفي الجروح. هكذا يقولون. لكنه قد يسبب أيضاً جروحاً جديدة. عندما لا تستطيع أن تكون في المكان الذي يحدث فيه ما يهمك حقاً. عندما تنفصل عن أحبائك، فلا يقترب منك سوى الخوف. عندما يعاني الناس الصدمة، يعلقون في الزمن. يشعرون أن الأمر السيئ (فاتحة كل الكوارث اللاحقة) يستمر في الحدوث لهم. على الرغم من انتهائه، إلا أنه يستمر في الماضي المستحيل حاضراً دائماً. ويختفي الشعور بالوقت.
في الفيلم، الذي عُرض للمرة الأولى في مهرجان فينيسيا 2021 خارج المسابقة، ترسم المخرجة (45 عاماً) مساراً طويلاً من المعاناة والمحن. يتعلق الأمر بالوجود والنشأة كطفل/ة في واحدة من أكثر البلدان التي تشهد نزاعات في العالم، إذ لم تتمكّن سوريا من الإفلات من العناوين السلبية المرتبطة بها منذ عقود: حروب (أهلية)، وصراعات، واضطهاد سياسي، وقمع، وكل تلك الأخبار التي تصلنا بشكل شبه يومي. ولكن أبعد من ذلك هناك قصص أخرى تكمن وراء عناوين الأخبار، تحاول توضيح الحياة الداخلية لهذا الصراع، بالتجرؤ على النظر وراءه والتعمّق فيه حتى لا تظلّ تلك القصص وأصحابها مجرد عناوين. هي إذاً رحلة مكثّفة وشاقة، لكن يجب القيام بها.
"يبدأ هذا الفيلم من دون صور، لأنه لا صور لما رأيته". يفتتح الفيلم بهذه الفرضية التي تظهر على شاشة سوداء. ففي بلاد الديكتاتورية يغدو المنظور ضبابياً، والصورة غير مكتملة. يخور الصوت، ويتلعثم الكلام. تُكتم الأفواه، ويبقى الحقّ حبيس قلوب أصحابه. شتات وهوام. تبحث المخرجة في شتات الوطن والسينما والثورة والأربعين من العمر. كما في الزمن والذاكرة وفي العتمة وفي أعوام أحاطت بها وبشريكها وبأصدقائهما وبعائلاتهم يحيطون أنفسهم بالسينما وبالغناء وبالمحاولة. على مرّ السنوات صنعوا أفلاماً ووثقّوا حياتهم، على الأقل ما كان ممكناً. سجّلوا الهمسات في الليل وفي الخفاء، حتى تكمل الحواس الصورة. ثم غادروا.
"أنا القصة، وفي الوقت نفسه، الراوية. هذا ما تبقّى منّي ومن قصتي، من شهادتي وتجربتي، كيف أنقذت السينما عقلنا وربما حياتنا"، تشرح المخرجة، التي أهدت فيلمها إلى "كل أسرى الصمت". مما يبدو أنه صور وروايات متناثرة، تظهر حساسية عاطفية متماسكة، تكشف منظوراً فريداً للتاريخ ومحاولة للتحدث عما تم إسكاته. سرد بضمير المتكلم يتراوح بين منظور شخصي وحميم وآخر معاصر وسياسي. سينما لإنقاذ الحياة، أو ما تبقّى منها بالأحرى، حياة مَن أصبحوا معارضين وثوّار ومنفيين ونشطاء وسينمائيين وعشّاق ومستمعين، عالقين في حياتهم اليومية، بين النشاط والسينما كأداة للبقاء.
تقول الجيرودي، "أعيش في بلدين. كلاهما صامتان. هناك الكثير من الصمت في ألمانيا، وهناك الكثير من الصمت في سوريا. الصمت مفهوم معقد للغاية. يمكن أن يكون الصمت احتجاجاً. يمكن أن يكون جرحاً. يمكن أن يكون ألماً. قهراً. حين يجبرك أحدهم عليه." في الفيلم الممتد لأكثر من ثلاث ساعات (إنتاج مشترك بين ألمانيا وفرنسا وسوريا وقطر)، تُسمع الكلمات وتُجرى الحوارات باللغات العربية والإنكليزية والألمانية والكردية. "ماذا يفعل الناجون؟ إنهم يسكتون أو يروون القصة بأكملها. ولكن كيف يمكن سرد قصة كاملة إذا كانت ذاكرة المرء منسوجة فقط في أجزاء وأحياناً غير موثقة"، تقول الجيرودي.
ينقسم "جمهورية الصمت" إلى فصول، ويعرض قصة حياة كاملة، بدءاً من طفولة المخرجة، عندما أهداها والدها كاميرا تصوير وهي في السابعة من عمرها، عندما كانت عائلتها تعيش في بغداد، ومن حينها ظلّت تنتج الصور بلا توقف. ثم سنوات دراستها وشبابها في سوريا. وبعد ذلك، في العام 2012، عندما اعتقلت السلطات السورية شريكها المخرج عروة نيربية. حينها، أطلق اعتقاله حملة تضامن وضغط من أجل إطلاق سراحه، شارك فيها مشاهير سينمائيين مثل روبرت دي نيرو وميشيل رودريغيز، ما أسهم في إطلاق سراحه بعد ثلاثة أسابيع. كان سبب اعتقاله يعود إلى نشاطه قبلها بثلاث سنوات، عندما وجّه نداءً عاماً من أجل الديمقراطية في سوريا، وقّع عليه عشرات المثقفين السوريين. تقول الجيرودي: "حلمنا دائماً أن نتحدّ كفنانين لنكافح من أجل عالم أفضل".
منذ العام 2002، تمتلك الجيرودي شركة إنتاج سينمائي تنفّذ أحياناً مشاريع صعبة، بما في ذلك جهدها الإخراجي، "دُمى: امرأة من دمشق" (2007)، حول النسخة العربية من دمية باربي. تعيش اليوم مع نيربية في برلين، وهي مندمجة بشكل جيد في مشهد صناعة الأفلام الألمانية. تقول: "الوطن بالنسبة لي في كل مكان، لكنّي بالتأكيد لا أريد العودة إلى هذه النسخة من سوريا". يصف "جمهورية الصمت" عجزها في مواجهة الدولة والنظام. "لم أتخل عن الأمل في أن نجد يوماً ما دولة يمكن للناس أن يعيشوا فيها بأمان ولا يخافون. هذا هو الاتجاه الذي يجب أن تتقدّم صوبه سوريا." يبدو الفيلم وكأنه نداء من أجل هذا المسعى، لكنه في نفس الوقت تبصُّر لأسوأ اللحظات التي ييأس فيها المرء من الواقع. "لسوء الحظ، علي القول إن رؤية سوريا تنعم في سلام لا تزال بعيدة جداً".
عبر مزيج من لقطات أرشيفية خاصة وأخرى حديثة، تروي الجيرودي قصة حياتها وحياة أصدقائها. تحكي عن الصمت المؤلم والتغلب على الصدمة. عن وجع وعزلة مشاهدة تفكك الوطن من بعيد. عن الإنسان باعتبارها ذاكرة. عن إيجاد العزاء في السينما والموسيقى وفي يقين الأحلام وفي تضامن علاقة حبّ عميقة. بصورٍ ممنوعة، وصمت، وأفكار سرية؛ يروي "جمهورية الصمت" حكاية مخرجة وبلد: ماذا كان، وما كان يمكن أن يكون، وما صار.
(*) عُرض مؤخراً في ألمانيا.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها