وتهيمن على الدراسات المُتحَفية المعاصرة عقدة الذنب الكولونيالية، بقدر تلبس الأرق الأخلاقي ذاته للأنثروبولوجيا، فكلاهما علمان استعماريان في الأصل، بغرض إنتاج معرفة عن الشعوب "الأخرى". الأول بخصوص ماضيها، والثاني حاضرها. الفرز والجدولة والتصنيف والحفظ، هي الأدوات على خلفية من العنف والإخضاع، وبمحصلة من ترسيخ التفوق الغربي، فالمعرفة دلالته ومبرر لاستحقاقات لاحقة. وجدت الأنثروبولوجيا خلاصها سهلاً، بمراجعة أدبياتها وتنقيحها من العنصري، وتأطير مستقبلها داخل حدود النسبية الثقافية، وكذا توسيع حقول دراستها لتشمل المجتمعات الغربية أيضاً. هكذا يصبح الجميع متساوين أمامها. إلا أن المتحف لم يجد طريقه معبّداً إلى التوبة. فالمقتنيات/ الغنائم في قاعاته، دليل الجرم الأول، ما زالت إشارة إلى استمرارية اقترافه. والتخلي عنها وإرجاعها إلى حيث تنتمي، يعنيان إغلاق المتحف.
يتعامل المعرض البريطاني الحالي عن الهيروغليفية، مع عقدة تأنيب الضمير تلك، بعدد من الاستراتيجيات. أولاً الاعتراف، فيخصص ركناً للإقرار بفعل الاستيلاء، كأساس لمُلكية الحجر، وذلك بتأريخ السياق العسكري لاكتشافه ولتناقله من يد إلى يد، تحت تهديد المدافع. في الوقت ذاته، يشتبك القائمون على المعرض مع السردية الفردية والتنويرية، التي تنسب الاكتشاف الكبير، كغيره، إلى عبقرية شخص بعينه، وعلى أسس العقلانية والتحرر من التقاليد والفكر الخرافي لصالح وسائل المعرفة الحديثة. فمع الإقرار بالدور المركزي لشامبليون في فهم اللغة المصرية القديمة، يقدم المعرض تاريخاً أكثر تشابكاً ولا يتحرك في اتجاه واحد، مضيفاً عشرات الأسماء والتواريخ الفرعية لمحاولة فك شيفرة الهيروغليفية، تضم كتّاباً مسلمين، وتجاراً ورحالة ومزوّرين ولصوصاً ومشعوذين وجنوداً أوروبيين من القرون الوسطى وعصر النهضة وما بعدها، بالإضافة إلى عدد من الباحثين من معاصري شامبليون وسابقيه، ساهموا بشكل كبير في وضع الأسس الضرورية للإنجاز.
ولأن ذلك كله لا يفي بغرض التكفير عن الذنب الاستعماري، يطعّم منسقو المعرض جنباته بعناصر محلية وأصوات السكان "الأصليين". على سبيل المثال، تقدّم القاعة الأولى نبذة مختصرة عن مدينة رشيد التي ينسب إليها الحجر، مع صور معاصرة لها ولمواطنيها. وتتخلّل الاستشهادات في النصوص التعريفية، اقتباسات من أساتذة مصريين في علم الآثار والمصريات في الجامعات المصرية. ومن بين المقتنيات المعروضة، كتب عربية تراثية تضم جداول للأبجدية الفرعونية، وكذا مسودات لأول معجم هيروغليفي-عربي، وضعه أول مصري تولى إدارة هيئة الآثار. أما في القسم الأخير من المعرض، فتصدح في خلفيته تسجيلات لتراتيل من القداس الأرثوذكسي باللغة القبطية، مع بطاقة تعريفية باسم الشماس المرنم وشرح لدور اللغة القبطية ورجال الدين الأقباط في نجاح مهمّة شامبليون. أما أكثر عناصر المعرض إرباكاً، فهي بطاقات موزعة إلى جانب المعروضات مع صور لأطفال من مدارس مدينة رشيد، مع إجابتهم على أسئلة عن معنى بعض رموز اللغة المصرية القديمة: "هذه تبدو مثل طائرة هيلكوبتر"، و"هذه كعكة العيد أو شمس" و"هذه خنفساء".
ومع أن هذا الجهد المبذول في محاولة توسيع عدسة المركزية الأوروبية، يشي بنظرة نقدية واستعداد للمراجعة، إلا أنه يظل أقرب للديكور في معظم الأحيان. فالاستشهادات من أساتذة الجامعة المصريين، مثلاً، تظل قيمتها هامشية، فهي مجرد تعليقات أو حواشٍ مقتضبة جداً عن شامبليون، من مصادر غربية بكل تأكيد. أما صور أطفال المدارس المبتسمين وتعليقاتهم خفيفة الدم، فتضيف لمحة من الفكاهة على المعرض، وتُوظّف جيداً كفواصل للراحة وسط سيل المعلومات المتدفق بين المقتنيات، لكنها من دون قصد تنتهي مع الكثير من عناصر المعرض إلى ترسيخ وضعية "المحليين" في هيراركية المعرفة والقيمة، كما في الماضي بالضبط.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها