فن يناقش فناً
"قمل العانة" الغنية بالحوارات حول فن الرواية، تزخر أيضاً بحوارات وتأملات حول الفن التشكيلي. فتفتتح الرواية بحكايات عن الفن السوري في ظل الحرب، فاللوحات في الأقبية المعتمة بعيداً من العيون خوفاً عليها من التدمير والسرقة، صورة رمزية كناية عن الدمار الذي طاول الإنتاج الفني السوري عبر السنوات الطويلة من الحرب. لكنه دوماً كان من الممتع قراءة الأفكار الفنية عن فن اللوحة عند الروائيين، فاللوحة في هذه الرواية هي: "كائن حي يكفي أن نجرحها حتى يسيل منها الدم. وهي كلام مطلي بالألوان، حلم كثيف لريشة رقيقة أو أصابع دقيقة أو سكين مرهف، ينسجها كائن، قريب من الله، يقلد آياته، ليراها الكافرون والحالمون والمتطفلون". وفي تأمل آخر عن الفن تقول إحدى الشخصيات: "لا يكون الفن حقيقياً إلا إذا كان عملية هتك وكشف وزنى، لا يكون الفن حقيقياً إلا إذا كان عارياً، الثوب اعتداء على الطبيعة".
أما أثر الدمار والحرب على الفن، فنلتمسه حين يروي لنا الفنان أحلامه: "منذ وقت طويل لم أر أحلاماً ملونة، باتت أحلامي كلها بالأبيض والأسود، وفي أفضل الأحوال يهيمن عليها لون واحد هو الرمادي أو الأصفر العكر". وتزخر الرواية بتأملات حول لوحات أعمال دافنشي وبيكاسو.
الطفولة النامية في المعتقلات
ما يميز "قمل العانة" عن الروايات والأفلام المركبة بالسرد الذهني، أن تلك الروايات لطالما تناولت موضوعات فلسفية أو فنية، من دون الولوج إلى ما سيأخذه إليها صاحب "المسرح في حضرة العتمة"، لأنه نادراً ما تضمنت الرواية أو الفيلم المفاهيمي موضوعة مثل الاعتقال السياسي، ممارسات التعذيب وأنواعه، والغوص عميقاً في جرائم الاغتصاب الممارسة في سوريا. وربما، تكون هذه الميزة سمة الأدب السوري في المرحلة الراهنة، الذي ينهل من تقنيات السرد القديمة والحديثة ويضفي عليها موضوعاته المستجدة كالموت، الاعتقال والتعذيب: "كان يجب أن أموت، لأني فقدت إنسانيتي، تمكنوا من إذلالي وكسر إرادتي وكرامتي، خلال بضع أيام وليلة، ملأت فرع التحقيق العسكري بصراخي الهستيري، وشحذت منهم الشفقة والرحمة. جريمة التظاهر للحرية، لم تعد تكفيهم، اعترفت لهم بجرائم لم أرتكبها وجرائم أخرى أنوي ارتكابها في حياتي. لو أستطيع الآن إيقاف قلبي عن العمل، لفعلت. لو أستطيع ثقب رئتي أو دق عنقي بيدي، لكان ذلك أفضل طريقة للموت الذاتي الهادئ، لكن أعضاءنا الغبية بلا أخلاق أو رحمة، تعمل من دون إرادة منا، ولا تشعر بالخجل أو الذل مثلنا".
الوباء المتنقل بالخطيئة
نتابع في الرواية حكاية طفل يولد في المعتقل، إنه الجيل السوري الراهن، فالصورة الرمزية للطفولة المسجونة تعبّر بدقة عن جيل يولد تحت القمع الديني والعسكري: "طفل حقيقي معتقل، طفل من لحم ودم، عاش على الماء والسكر وفتات الخبز. فرج الله الحزين صار اسمه. أصغر معتقل على وجه الأرض، لقيط مكتوم النسب، لا أحد يعرف أباه ولا أمه. كان الحراس ينادونه عرسا". الجيل السوري التائه بين ثقافتين، ثقافة القامع وثقافة المقموع، لغة العنف ولغة الضحية: "لم يكن يعرف كلمة عمو أو بابا، وحدها لفظة آبه كان يشير بها إلى الجلادين، ثم راح يردد لغتهم، فلا يحفظ غير الشتائم وعبارات الزجر والتحقير: ولا، حمار، حقير، عرصا، منيك.. أو لغة الضحايا والمعذبين: لا، دخيلك، ما دخلني، حاضر سيدي"...
"قمل العانة" يحضر في الرواية مرتين، المرة الأولى في لوحة مرسومة لجسد ذكوري لكنه يمتلك عضواً جنسياً أنثوياً، ذلك أن الرواية طافحة بالتحولات الجسدية بين الذكورة والأنوثة والتحولات الجسدية بين الجمالي والمشوّه المعذّب والميت. أما المرة الثانية، ففي الحكاية الأخيرة للرواية التي تتابع ممارسات القمع من طرف الجلاد، وتصف بدقة التعذيب الذي تقوم به شخصية الجنرال. تدخلنا الرواية في دهاليز الأجهزة الأمنية، وإلى أقبية المعتقلات، ويأتي قمل العانة حين تكتشف زوجة الجنرال وجوده في جسدها في دلالة تصل أخيراً إلى ممارسات الاغتصاب الممارسة على المعتقَلات والتي شارك فيها الجنرال. ليصبح قمل العانة المنتشر هو وباء العنف في جسد المجتمع.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها