في الحوار الخاص معها والذي أجراه الروائي حسن داوود، وذلك ضمن إطار برنامج "متن" وهو سلسلة حوارات تطلقها مؤسسة "اتجاهات" مع مجموعة من الكتاب والكاتبات السوريات، شرحت القاصة سماح الحكواتي عن قلق التوقف عن الكتابة بعد الخروج من سورية، بدا لها المنفى ثقيلاً ولم تكتب كلمة طوال العام الأول في ألمانيا. لكن إيمانها بأهمية الحكاية دفعها إلى ابتكار فكرة مجموعة قصصية تربط بين الضيع والبلدات في الطفولة، بين المدن التي سكنتها وارتحلت فيها، وبين أماكن الذاكرة والحاضر، والكائن في رحلة المستقبل. وقد أكدت الكاتبة في اللقاء وفي المقدمة المرافقة في الكتاب بأن المجموعة القصصية التي تحمل عنوان "بين نهرين" هي: "مجموعة قصصية، تتناول حياة سيدات عشن بين نهرين؛ بين سورية، وواحدة من دول اللجوء، حكايات خلف أنهار كثر، نساء عبرنها، ونساء حبسن الروح خلفها، ونساء ما زلن يحاولن العبور. ولن يكون مهمًا من تكون تلك المرأة بقدر أهمية أن تجد نفسها في حكاية ما، فتبتسم".
ففي قصة "خيبة" يرتحل الوعي بين أماكن المستقبل وأماكن الماضي، تجري أحداثها في الطائرة، حيث تسافر الزوجة مع أولادها الثلاثة إلى ألمانيا، وهي تتخيل استقبال زوجها العاطفي الحار لها في المطار. تتخيل المسافرة مدينة المستقبل بينما تحضر في الذاكرة مدينة الماضي حيث ذكريات الهروب من مطاردة الأمن، ينوس القارئ بين زمنين، زمن اللحظة الحاضرة في القصة وزمن ذاكرة الشخصية الرئيسية. عند اللقاء بزوجها يسوء المستقبل إلى درجة الجفاء والشعور بالبرودة، لتنام في البيت الجديد وهي تحضن أطفالها وتستعين من برودته بما نجا في الذاكرة من صور ووجوه وأمكنة.
لا ندرك حضور شخصيات قصصية في نصوص المجموعة، فهل الشخصية الأولى هي ذاتها التي تحضر في المقطع الثاني من القصة ذاتها، حيث ينشأ حب ثنائي عبر العالم الافتراضي، أو في المقطع الثالث من القصة ذاتها والتي تبدأ تعرف الغربة بأنها ليست الارتحال في الأمكنة، ولكن في تغير ملامح البشر: "ليست المدن والحدود المشكلة، فالأكف والوجوه والألسنة تغيرت بنا مرات عديدة". يعالج هذا الجزء من القصة العلاقة المعقدة بين الحرب والحب: "نحن جيل حرب، وآباؤنا جيل الهزيمة، وبينهما كبرت الروح، وتشابه عليها مفهوما الحب والحرب، لم يكن ما بيننا حب، وإنما تجلياً من تجليات الحرب".
الذاكرة المستمرة
في قصص المجموعة قلق مستمر من حضور الذاكرة، التي تصبح ملجأً للخلاص أيضاً، الذاكرة متداخلة ليس مع اللحظة فقط، بل هي التي ترسم المدن القادمة، هناك قلق على الذاكرة من التواصل مع المدن القادمة: "لا ذاكرة، إنما صفحة كالسكر الأبيض، كثلج هذه المدن". وعناوين القصص في المجموعة هي تنويعات على علاقة الساردة مع الزمن، علاقة السوري مع الذاكرة والآن هنا. قصة "انتظار" هي حكاية كل النساء اللواتي يعشن في الانتظار، انتظار عودة حبيب من الماضي، انتظار لقاء حميم في المستقبل. تتطرق القصة لمقدار الخسارة والفقد في العلاقات العائلية والعاطفية السورية، وصحيح أن أحداثها تتعلق بامرأة على سفينة تبحر نحو جزيرة الأميرات في تركية، إلا أنها عن الأعراس التي تأجل موعدها بسبب كثرة الموت، عن انتظار الأمهات اللواتي قُنص أطفالهن في الحروب، عن الانتظار للمختفين قسراً وفاقدين الحياة في معتقلات التعذيب.
القصص تجري في غالبيتها في أماكن الارتحال بين مكان وآخر، أو سائل الانتقال من مدينة إلى أخرى، تجري القصص في طائرة في سفينة في زورق وفي قطار، لكن الطرقات إلى الأمكنة الجديدة تقود إلى المدن القديمة، الأماكن بحضور دائري، لا هروب من الذاكرة، والأصعب لا هروب من الحرب: "تُغادر حرباً استمرت أعواماً، وفي نيتكَ وضع آخر أسلحَتك، آملاً أنكَ ستغفو أخيراً، ثم تجد النار قد أحرقت كل شيء حتى موضع رأسك على وسادتك، منذرةً بأن حرباً أخرى في زمن السلم المخترع بدأت، وأنت وحدك لا شريك لك".
في قصة "هرب"، وبينما تنشأ علاقة حب وجاذبية بينهما، يسأل نرويجي ستيني امرأة سورية عن الخوف: "ألا تخافين مني؟"، تفتح الحكاية على الخوف الذي عانته هذه المرأة في ماضيها من عيشها التجربة السورية في السنوات الأخيرة، الخوف الصامت مع القذيفة بعد صوت انطلاقها الأول، خوف الوجع المحشور في جدران الأبنية المقصوفة، والأضلاع المبتورة، والعيون المفقوءة، واليتم والفقد". أما في قصة "ثرثرات بين نهرين"، فإن طبيعة المكان الذي يجري فيه الحدث، وهو وادٍ عند التقاء نهري الراين بالماين، تعبير عن التقاء العشق بين عالمين. فالقبل العاشقة تلتقي بين ألمانيا وبين القبل المسروقة بين الأشجار في الضيع، والقبل المتكرر في الساحات والمدن تلتقي بالقبل بين العشاق والصبايا على التنور. لكن القصة أيضاً تأخذنا إلى ضياع الهوية، فها هي الرواية تقف أمام المرآة لتكلم ذاتها، لكنها تخطئ اللغة الأدق للتواصل مع انعكاس حضورها في المرآة: "العجائز يكلمن أنفسهن دائماً، إذا نظرت أحداهن في المرآة مثلاً. لستُ عجوزاً، لكني جربت الثرثرة مع نفسي، أُقرئها تحية الصباح العربية تارةً، بالإنكليزية تارة، وبالألمانية تارةً أخرى، وأسخر من جهلها باللغة التركية". القلق من فقدان الهوية يحضر باستمرار في المجموعة: "صرت أنسى أحياناً أين أنا، وأتأبط ذراعاً في الريح، قابضة على الخواء".
في البحث عن الذات
قصة "صراع لغوي" عن دروس اللغة الخاصة بالوافدين الجدد. تسعى الشخصية الرئيسية في القصة لأن تعرف الطلاب على لغتها العربية، كنوع من رغبة في التبادل الثقافي، فتكتب الأبجدية العربية على اللوح، وتسترجع روايات "قدر يلهو" و"قوس قزح" التي ألفها الروائي السوري شكيب الجابري عن برلين، وتشرح عن أول رواية سورية عُنيت بعلاقة الشرق والغرب حيث تنشأ علاقة حب بين الفيلسوفة الصغيرة (إليزا) وبين شخصية علاء الدين.
نتابع تيمة العلاقة بين الشرق والغرب، العلاقة بين الوافد والمقيم، بين اللاجئ والمجتمع المستضيف في قصة "خبز وملح ولجوء"، حيث تتعرف القاصة إلى جارتها التي نعتقدها ألمانيةً بدايةً، لنكتشف أنها لاجئة للمكان أيضاً، حصل لجوئها في رحلات الهجرة في الماضي الألماني. ومجدداً يظهر الخواء في مجموعة القصص من خلال القصة الأخيرة التي تحمل هذا العنوان، "خواء": "أصبحت هنا امرأة غير مرئية، تلوح حقيبتي الكبيرة في الهواء، معلقة على خواء صاعد هابط. نعم اعتادني هذا الخواء، وألفت مقامه هنا في الصدر، لا أهل، لا بيت، لا خيمة، لا ذاكرة".
رابط المجموعة القصصية [بين نهرين] التي ستكون متاحة حتى نهاية شهر آذار/مارس 2021، هنا
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها