استغرق فيلم جيمس بوند الجديد "لا وقت للموت"(*) عاماً ونصف العام ليجد طريقه إلى الصالات السينمائية. التأجيل المتكرر جاء لصالحه، إذ استفاد من انتظار الجمهور له وانتظار الصالات لجمهورها بعد إغلاقات وتدابير صحّية باعدت بين المشاهدين والشاشات الكبيرة. انتهى الانتظار، وها هو آخر أفلام بوند، من بطولة دانيال كريغ بصفته العميل 007، وهو أيضاً الأطول من بين 25 فيلماً في السلسلة، بمدة تصل إلى 163 دقيقة كاملة.
المعطيان كان لهما تأثير كبير في الفيلم. ينصبّ التركيز دائماً على بوند، أي دانيال كريغ المضطلع بتمثيل الدور في آخر خمسة أفلام بدأت العام 2006 بفيلم "كازينو رويال"، إنما هذه المرة أتيحت له فرصة تمثيل طبقات أكثر من نفسه، وبدوره استخدمها جيداً، وإن جاء ذلك على حساب الفيلم الذي يسلّط الضوء على المشاكل الوجودية لرجل كان في يوم من الأيام مضحكاً، على حساب "نُسخ أخرى" من كريغ. في النتيجة، لم يأت الفيلم طويلاً فحسب، بل ممطوطاً أيضاً، خصوصاً في قسمه الأوسط.
بداية، حبكة الفيلم الجديد تلتقط جيمس بوند (بعد افتتاحية مدتها 20 دقيقة تغرقه في كربٍ شديد) أثناء استرخائه على أحد سواحل الكاريبي، يصطاد السمك، ويكافح تبعات فقدان جميع المقربين منه، ويفضّل نسيان السنوات التي قضاها كعميل 007. تخرجه من سباته زيارة صديقه القديم عميل الاستخبارات، فيليكس ليتر، الذي يطلب مساعدته في العثور على عالِم مختطَف وإنقاذ العالم من احتمال انتشار فيروس قاتل عبر الكوكب (أو ربما بمخاطر متعلقة بروبوتات نانوية). يسمح بوند لنفسه بفترة من الوقت كي يقتنع، وفي النهاية يبدأ العمل مرة أخرى، ويواجه ذلك الشرير الذي لطالما كان هو الوحيد القادر على مجابهته والتعامل معه.
هذا كل ما يستحق الذِّكر في الحبكة، التي لم يكتب نصّها إيان فليمنغ، بل ستة كتّاب دفعة واحدة، من بينهم فيبي والر بريدج؛ لذا لا يمكن للمشاهد معرفة ما سيأتي حتى يشاهد الفيلم. مع ذلك، فالحبكة معقدة لدرجة التشابك المفرط في السيناريو، والعديد من المشاهدين لا يتذكرون الأفلام السابقة المتمّمة للقصة، لا سيما فيلم "سبكتر" من العام 2015، والذي لا يستند أيضاً على نصّ لفليمنغ ويبني عليه الفيلم الجديد، هؤلاء سيجدون صعوبة في ملاحقة أحداث الفيلم والتنقل بين مراجعه.
هكذا، عندما لا يكون بوند في وضع العمل الكامل، فإنه يتعامل مع مشاكله ومسائله الداخلية. "لا وقت للموت" يجرؤ أيضاً على أخذ 007 إلى قمم عاطفية لم يصلها (تقريباً) من قبل. تستعاد شخصية عميل وكالة المخابرات المركزية فيليكس ليتر، الكلاسيكية والأساسية في السلسلة، وتتحوّل هنا إلى شيء مثل
"باتروكلُس" بوند، مع كلّ ما يعنيه ذلك. لكنها تضع البطل أيضاً في موقف عاطفي غير مسبوق، والذي، بينما يجعله أكثر ضعفاً، ويوفّر له كذلك عذراً قوياً، لا ليصبح أكثر قسوة فحسب، وإنما أيضاً لتسعير حياته نفسها. بخلاف هذا القوس الدرامي الجليل، تعود الممثلة الفرنسية ليا سايدو في دور مادلين سوان، عشيقة بوند من الفيلم السابق "سبكتر"، وتقضي الكثير من الوقت في البكاء؛ فيما كريستوف فالتز، الشرير بولفيلد من الفيلم نفسه، يُمنح دوراً ضئيلاً للغاية يؤدي فيه الشخصية نفسها التي لعبها منذ أن بدأ التمثيل في أفلام تارانتينو. بعض الحوارات أو المونولوغات، خصوصاً تلك التي على لسان الشرير الرئيسي (رامي مالك)، تصمّ الآذان، لسخفها وافتقارها لأدنى قدر من المنظور.
كاري جوجي فوكوناغا، الذي أخرج من بين ما أخرج، "جين آير"، وشارك في كتابة "لا وقت للموت"، هو ثاني مخرج أميركي يصنع فيلماً لبوند، بعد إيرفين كيرشنر ("أبداً لا تقل أبداً"، 1983). والمشاعر "الأميركية" المعبَّر عنها هنا واضحة جداً، وتأخذ بوند إلى مكانٍ ربما لم يرغب فليمنغ في ذهابه إليه أبداً. ربما كان بوند بطلاً متناقضاً ومتردداً عاطفياً بشكل متزايد لبعض الوقت، لكن الفيلم تحول هذه المرة بالكامل، وبشكل كبير من المغامرة، إلى الميلودراما، باستخدام عكازات عاطفية من قبيل طفل محتمل، ولعبة محبوبة، والكثير من اللفّ والدوران حول فكرة العائلة. فوران الانفعالات العاطفية في الفيلم مركزه ومنتهاه أميركي تماماً، وبدوره يحاول دانيال كريغ أداءه بشكل مقنع. هنا، بوند رقيق وهشّ ينهشه الشكّ والإحباط، معطوفاً على صوت بيلي إيليش الحزين ليكمل دائرة التعاطف.
بالطبع، كل ما نتوقعه من السلسلة، موجود: من سيارة أستون مارتن اللافتة، إلى مشروب الفودكا مارتيني "المخلوط هَزّاً لا تقليباً"، إلى لازمة "أنا بوند. جيمس بوند". هناك ما يكفي من الأكشن، ولا شيء يثير الدهشة في هذا الصدد، غير أنه أكشن مصوّر بدقّة وتحديد صارمين. وفي العادة كانت مشاهد الحركة هي ما يعطي الفيلم أثراً لخِفّة بوند وانفصاله عن الواقع، لكن صانعي الفيلم تخلّوا تقريباً عن مرحه وروح فكاهته المميزين. مرئياً، الفيلم جميل وأنيق للغاية، حيث أودعه المصور السينمائي السويدي، ليندوس ساندغرن، مشاهد طبيعية باذخة وخلّابة من إيطاليا واسكتلندا والنروج وجامايكا، ولم يصوَّر داخل الاستديو سوى مشهد الأكشن الرئيسي والضخم، والذي جرى تنفيذه في كوبا. إجمالاً، هو فيلم صلب، صادم أحياناً، وعاطفي في بعض المواضع. ما زال البعض منا يفضّل 007 غير الصائب سياسياً في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، والذي لم يأخذ نفسه على محمل الجد. لكن أفلام بوند – كريغ تبقى جيدة جداً بالنسبة لزمانها.
دانيال كريغ يقول وداعاً للعميل 007، ويقولها بجلال وشعور عظيمين. لكن، بشكل عام، انتهى عصره غالباً، وسنرى ما سيحدث لسلسلة أفلام بوند وكيف ستكمل مسارها. لا شيء مؤكداً، بل تتكاثر التكهنات. قيل كلام كثير عن الممثل البريطاني توم هاردي، وخلافته لكريغ في أداء الدور. في الوقت ذاته، مع تغيّرات الزمن وصعود خطابات "تصحيحية"، يمكن قراءة "لا وقت للموت" كتلميح إلى أن الوريث المنتظر لحمل لقب 007 قد يتغيّر جنسه ويصبح إمرأة، تلك التي تلعب دورها في الفيلم الممثلة البريطانية السوداء لاشانا لينش. حسناً، سنرى.
(*) يُعرض حالياً في الصالات.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها