أما حواء فولدت في الهند. يقول القرطبي في تفسيره المشهور، مع بعض التجاوز والخلط والتأويل والتكريد: "اُهبط آدم سرنديب في الهند بجبل يقال له "موزان" التي تقع على بعد فراسخ من عامودا، ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هناك طيبا، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام، وكان السحاب يمسح رأسه فاصلع، فأورث ولده الصلع".
كل امرئ يتصور قريته عاصمة العالم وأصل الخليقة.
وعامودا السورية، أقصى بلدة سورية مشهورة في ربوع كردستان وخيالها، يعرفها الكرد في تركيا وفي العراق، والكرد المعاصرون شديدو العصبية، ينسبون أصناف الكرد إلى المطلق بدلاً من الدول المجاورة: الشمال، الغرب، الشرق.. وأهلها بهم شيء من البركة أو المسّ، قبعاتهم مقلوبة من جوفها، وليس مثل قبعة محمد مهدي الجواهري الذي كان يطلب منه أن يدير قبعته في الصور والمقالات التلفزيونية، حتى تدوخ، لأن عليها اسم كردستان، فيبرمها صاغراً، وكان شاعراً كبيراً في الشعر، ولم يكن كذلك في الواقع، وكثير من الشعراء رخيصون وصغيرون. والبَرَكة اسم ناعم للجنون.
قال ناشط كردي مرّة: إنَّ الملا مصطفى البرزاني به عيب وحيد! فسألتُ ما هو؟ قال: إنه لم يولد في عامودا! فعامودا هي عروة الكرد الوثقى عند أهلها، مع أن عمرها لا يجاوز القرن، وأهلها يتوقدون مثل رأس الحية، والفتى في عامودا أحد خمسة على سبيل المبالغة: شاعر، كاتب، عازف، رئيس حزب سياسي، أو مخبول.
عامودا في مكة:
مثَلُ ابن عامودا كمثل أبي سفيان بن حرب، وقد وقف بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها». قال العباس: فخرجت فحبسته (أبو سفيان) حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه. فمرّت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟
فأقول: سليم. فيقول: مالي ولسليم. ثم تمرُّ القبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: مالي ولمزينة. حتى نفذت القبائل، ما تمر قبيلة إلا سألني عنها فإذا أخبرته بهم قال: مالي ولبنى فلان. حتى مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، قال: سبحان الله، يا عباس من هؤلاء؟
قلت والكلام للعباس: هذا وفد عامودا.
فرفع أبو سفيان الكردي مسدسه، وكان أهل عامودا يتمنطقون بمسدسات قبل عهد البعث، مثل الكاوبوي، وأفرغ مشطاً كاملاً من الرصاص في كبد السماء، فأردى عشر غيمات صرعى.
حلم صحيفة:
عرفت باكراً أنَّ صحفاً تصدر لكل مدينة في الاتحاد السوفياتي وأميركا، فحلمت صبياً بصحيفة يكون اسمها "عامودا" يومية سياسية ثقافية شاملة، أو اسمها" أخبار عامودا". أسماء الصحف هذه الأيام على هذه الشاكلة: عامودا نيوز، عامودا برس، عامودا بوست... حلمت بصحيفة من صفحة واحدة كبيرة تطوى، فتصير أربع صفحات، بالعربية: الأولى للأخبار البلدية (الشوارع، المجاري، النهر، الجامع، الكنيسة..)، الثانية للأخبار الشعبية (المحلات، الباعة، شكاوى الشعب الحيران)، الثالثة للثقافة والفن (أتولاها برعايتي وأظلها بظلي)، الرابعة للأخبار الطريفة، ولها فريق صحافي، ومراسلون متطوعون، ومخازن صور، ورسام كارتون مبتدئ، وتكون لي كلمة الصحيفة، أنا رئيس التحرير الفتى، ويكون اسم الزاوية الوداعية في الصفحة الأخيرة مميزاً، فالصحف تُقرأ من الخلف، لأنَّ الصفحة الأولى فيها أخبار الرئيس المعفّنة التي يعرفها الجميع، وسيكون اسمها شاعرياً مثل "معاً على الطريق"، أو "آفاق"، كما في جريدة تشرين التي لم يكن فيها أفق، ولم تكن لي الشجاعة أن أسميها "آبوني"، وآبوني مصطلح صبياني من ألعاب الأولاد في الدحاحل، الكرات الزجاجية الملونة، وتمنيت أني كنت شجاعاً فأسميها، "ليسْ، معناش، آبوني"، وهي أسماء كردية، قياساً على عنوان الفيلم الهندي "عامر أكبر أنتوني"، "ليسْ" فيها للثورة والاعتراض، معناش للتسديد والرمي، آبوني للهرب والفرار، واللعبة لعبة صيد دحاحل، يحاول المرء صيد دُحلة خصمه الزجاجية، وقد يعيقه خصمه ويغشّه فيصدها بقدمه، فيحكم بعقوبة اسمها "ليسْ" وتكون العقوبة آبوني، وبها يفرُّ المرء بكرته الزجاجية أبعد ما يكون حتى يحرم خصمه من صيدها.
السعي إلى الأمجاد الدامية:
اسمي الحركي في الصحيفة جوكو، أوقّع به مقالاتي وأهشُّ به على أفكاري ولي فيه مآرب أخرى؛
المأرب الأول عاطفي، وهو الفوز بالحب، والمأرب الثاني دنيء وهو المجد، وليس أدنى من المجد، قال المتنبي:
لا تَحْسَبَنّ المَجْدَ زِقّاً وقَيْنَةً/ فما المَجدُ إلاّ السّيفُ والفتكةُ البِكرُ.
وتالله إن الزقَّ والخمر والراقصة، لأدنى وأخفَّ من السيف، فالسيف يعني القتل والدم. كان طريق المجد دائماً ملطخاً بالدماء.
ديغول والشاذلي والمهراجا:
كل الأخبار التي ستروى في صحيفتي، كانت ستتسبب بمشاكل لا حصر لها، فالأهالي سيطالبون بحلول لمشاكلها فوراً وحالاً، وبعضهم سيعترض على سبب نشر خبر نعوة جكو أسفل خبر نعوة بكو، وسبب عدم الاحتفال في الصحيفة بفرح عرس دكو أكثر من عرس هكو، مع أنه أغنى وأشرف، وسبب كبر مساحة خبر مجو بالنسبة لمساحة خبر عجو، وتعترض أسرة قوبو لذكر اسم ابنتها، وهي متفوقة، وهو خبر نهاية العام الدراسي، وكان ذكر اسمها بين المتفوقين في الصحيفة. وقد يحتج بعضهم لأن اسم ابنتهم المتفوقة لم يذكر، والفرق علامة واحدة في الدرجات المدرسية.
سيعترض "موسوليني"، هكذا لقبه، فأهالي عامودا لهم أسماء كبيرة، مثل ديغول، والشاذلي، والمهراجا.. وكان الشاذلي لاعبي المفضل في فريق عامودا، ويخافر موسوليني أمام باب الصحيفة، ليضرب الصحافي الذي نشر خبر اعتدائه على جاره في المكان الفلاني. "زيادو" صانع المرطبات الثاني سيعترض لأنه شم رائحة هجاء للبوظة التي يصنعها وعيب زيادة الليمون فيها، مع أنّ اسمه لم يذكر إلا إشارةً، أورفللي صانع المرطبات الأقدم والأول، سيعترض لأنه يشكُّ بأنه المقصود بذكر خبر المشبّك زائد الحلاوة، ولن يرضى عن خبره، آل فلان سيعترضون لأن الصحيفة ذكرت أن آل علان من أسّس مدينة عامودا وهذا غير صحيح، والخبر ذكر من غير جزم. تذكر الصحيفة أسعار الخيار والبندورة، وخبر تسرّب أسئلة الامتحان في ثانوية المعري للبنين، وأسماء الصبية المواظبين على حراسة البنات في أثناء الانصراف من ثانوية زنوبيا للبنات، على نقيض أسوة عنترة: وأغضُّ الطرف عن جارتي..
مخابرات بالمرصاد:
أنا في مكتبي، أحرّر الأخبار الأسيرة، فيخبرني أمين السر أنَّ ضيفاً ينتظر في غرفة الاستقبال، يقول إنّه من المخابرات، ولم يكن في ذلك الوقت الذي حلمت فيه بصحيفة مفرزة مخابرات، كانوا آنذاك يضربون ويهربون، ولم تكن شائعة في ذلك الزمان وظيفة أمينات السر، وإلا كنت اتخذت سكرتيرة، فلا يحفظ الأسرار مثل الحسناوات! فأقول له أن ينتظر، وآمره أن يضيّفه قهوة سيئة لا تُشرب، فيقول: سأعد له سّماً يا أستاذ. ويغمز لي بعينه، فأفهم، وأطرب للقب الأستاذ الكبير..
آيس كريم في أور فللي:
أورفللي ليست أورشيلم، وهو اسم مشتق من أورفا التركية، وليس من أور شليم. وهو اسم محل مرطبات، شباب أورفللي وعمالها هم أحمد ومحمود وسمير، الأخوة عابسون دوماً، بسبب غلاظات الزبائن، وتخاصمهم على العمل وفترات الراحة، ومحلهم للمرطبات والحلويات أبهج للنفس وأفسح من محل زيادو، ففيه حديقة خلفية، وأبناء أورفللي يحبّون المجلات المصورة مثل تان تان وسمير وميكي، وهي منثورة على النضد والكراسي وأكياس السميد. ووجدت عامودا في السويد عندما زرت أحمد.
عامودا في الهند:
زاوية " معناش ليس آبوني" التي أكتبها تكون كل يوم عن مجنون آيس من عقله، أو عاقل على حافة الجنون، الناس تجنُّ بسرعة في عامودا، وهي من أثبت الزوايا في الصحيفة الغرّاء. وتؤمن أنها ما أن تتحرر كردستان، حتى تصير مدينة فاضلة، وهم يرون البلاد العربية كلها متحررة من الاستعمار، وأكثرها يعيش في عهد أشد من الاستعمار الأول!
زاوية شخصية اليوم، وهي في العدد التجريبي لمدرس الإنكليزية القدير سيف الدين، الذي أثنى عليه جميع الطلاب في ثانوية المعري، سيعترض الأستاذ إبراهيم مدرس الانكليزي، ويحتج، ويثور، مع أنّ دوره قادم غداً. سنعرض أخبار الفرق الرياضية، ويعترض فريق عامودا الرياضي لأن الخبر لم يذكر أنه انهزم، وأنَّ الحكم كان متواطئاً مع الفريق الخصم. الجمهور العامودي سيشتكي أنّ الصحيفة غشّت الجمهور بفيلم اليوم وهو وخلطت بين فيلم "عامر أكبر أنتوني" و فيلم "إذا أردت أن تعيش فاقتل"، وأن الفيلم قصير، وراحت فلوسهم هدراً.
هجاء شديد لمدينة القامشلي العرّة في صحيفة عامودا، فأين القامشلي من عامودا درّة مدن الكرد. القامشلي مدينة كبيرة، بها عشوائيات ليست بعامودا، وكثير من أهلها نصابون وغليظو القلب، لقد كانت قامشلي في نفسي دوماً "مدينة الخطايا".
الصحيفة اسمها بالخط الرقعي من فوق، وتحتها توقيع الخطاط بخط ناعم، خطّها ودبّجها خطاط عامودا الشهير والطيب برو. ستنفذ أعداد الصحيفة من أول ساعة، ثم سيرد خبر في صحف كبيرة وعالمية تبثها وكالات عالمية: حرق منزل كاتب فتى من أقصى الشمال السوري، اسمه جوكو، أصدر صحيفة وهو طالب في الثانوية العامة، وهي أول صحيفة يومية في عامودا، ولم يصدر منها سوى العدد التجريبي صفر.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها