نقد نظام التعليم
إن مجموعة أشباح شخصيات المسرحية تستعيد أمامنا طفولتها، مرحلتها الدراسية، فتتم السخرية من نظام التعليم السائد. شخصية أحمد الأصفر، هي التي تقوم بدور الطالب، وبأداء هزلي ساخر يبين لنا السطحية والسخرية من نظامنا التعليمي القائم على التكرار والنسخ بدلاً من تعليم قائم على الإبتكار والإبداعية. كذلك يسخر العرض من أسلوب القصاص، أو العقوبة التي تُفرض على التلاميذ، فحين تثور طالبة على الحركة الجماعية للمجموعة، تتم معاقبتها لاختلافها، لتميزها. لا شك أن موضوعة نظام التعليم السائد هي موضوعة أساسية بالنسبة إلى عرض مسرحي كتب موضوعاته متدربون ومتدربات هواة تتراوح أعمارهم بين 16- 19 سنة، فهو حال مجموعة المشاركين في المسرحية.
أساليب التعريف المقيّدة
يشكو مؤلفو العرض المراهقون والمراهقات من الأسئلة المرتبطة بكيفيات التعارف الإجتماعي السائدة: لماذا هذا الإصرار على الإسم؟ لماذا هذا الإصرار على الكنية حين التواصل أو التعارف على آخر؟ لماذا هذا الإصرار على الطائفة والدين لدى التعريف بأنفسنا؟ العرض يعترض على الأسئلة التي تعرف الهوية وتحددها: من وين؟ من أي طائفة؟ وبالتالي، ينتقد العرض التعريفات السائدة في هويات الأفراد.
المخابرات
في أحد المَشاهد، ترتدي الشخصيات أزياء جِلدية مع نظارات شمسية تحجب العيون، الإشارة واضحة إلى الصورة النمطية التي يظهر عليها رجال المخابرات. جميعهم يتحركون ويتحركن بآلية متماثلة. في المشهد، شخصية سامر زاهر، هي المتفردة، هو الثائر المتمرد الذي يرفض الانصياع إلى حركات جسد الجماعة، في سبيل الدفاع عن حركته الفردية-الذاتية. كما في الفيديوهات الكليبات التي ميزت أغاني فرقة Massiv Attack البريطانية، فإن هناك دوماً فرداً يحاول التمايز عن المجموعة المدجنة، كذلك في الأحداث المسرحية تقاوم شخصية سامر زاهر الإنخراط في الحركات وفي الإنفعالات المنمطة المنمطة الآلية الجماعية، محاولاً الحفاظ على فرديته والاستمرار في خصوصيته. ومع تقدم المشهد، نلحظ محاولات متجددة من قبل المجموعة لتدجين الفرد، لكن سامر يرفع نظره بعيداً، يؤدي حركاته من ألحان داخلية-ذاتية-باطنية يسمعها من جواته، بينما تستمر المجموعة في محاولة تدجينه، ليكون المشهد صراعاً بين دفاع الفرد عن خصوصيته وتميزه، ومحاولات السلطة تحديداً في تدجينه وإدخاله في حركية وديناميكية الجموع.
لكن المشهد يطور هذه الإشكالية بأبعد، ماذا لو أصبح الصراع داخلياً، في جسد الفرد نفسه؟ لم تعد القوة التي تحاول تنميط الفرد، هي المجموعة، بل أعضاؤه وجسده ونفسه، ليصبح بالتالي الصراع الحقيقي والأعمق هو بين الفرد وعادات جسده، بين الشخصية وثقافتها الحركية. لذلك، تتجسد الفكرة بأداء صراع داخلي-ذاتي، صراع بين سامر وجسده. وشيئاً فشيئاً، تبدأ حركته الراقصة التعبير عن رغبته في التحرر من جسده نفسه، فينقسم على ذاته، ذات متمردة على تعاليم الجسد، وجسد خاضع لثقافة المجموعة يفرض إرادته. فيتحول الصراع بين الفرد والمجموعة، إلى صراع بين الفرد وذاته، بين الفكر والجسد، بين العادة ورغبة التميز.
أسئلة المقاومة
في مشهد، تصعد الشخصيات كلها إلى المسرح مبديةً رغبتها في الهجرة والرحيل. منذ العام 2011، برزت في الفن التشكيلي السوري تيمة حقيبة السفر في اللوحات والأعمال النحتية، كان ذلك تعبيراً من الفن السوري عن فكرة الهجرة والرحيل، وكذلك حضرت الحقيبة في المسرح، كما هو الحال مع عرض "سيلوفان- فرقة كون" حيث حضرت حقيبة السفر كغرض مسرحي أساس، بُنيت عليه حكاية المسرحية للتعبير عن ظاهرة الهجرة والرحيل التي عاينتها الثقافة والمجتمع السوري. أيضاً في العرض الحالي، تشكل حقيبة السفر أكثر الأغراض المسرحية حضوراً، وذلك في التعبير عن رغبة الشبان والشابات بالرحيل.
أثناء رحلة الهجرة والرحيل تروي الشخصيات أحلامها: كنت أرغب في أن أصبح دكتورة، كنت أرغب في أن أصبح طباخاً، كنت أرغب في الحفاظ على أحلامي ما أمكنني، وتتكلم الشخصية التالية بالألمانية. كلها تنويعات على فكرة الهجرة والرحيل، وفجأة، من الأداء الراقص، تكتشف المجموعة أنها أمام الحدود، أي حاجز دولي، فيبدأ الجميع البحث عن جوازات السفر. الأوراق الإدارية هي هاجس الشباب السوري واللبناني والفلسطيني، حين يبني أحلامه ورغباته على الهجرة والرحيل إلى عوالم أفضل.
سينوغرافياً، يجسد العرض بحرًا على المسرح، بحر من أقمشة زرقاء تشكل الأمواج على طول مساحة الخشبة، تمر عبرها قناديل ضوئية تشبه قوارب الهجرة التي تخوض غمار البحر ليلاً بفوانيس بسيطة. يرتبط البحر المجسد سينوغرافياً على المسرح، بظاهرة الهجرة غير الشرعية في قوارب الموت، ويجسد البحر الموت غرقاً في سبيل الوصول إلى البر الأوروبي. وهكذا فإن عبور البحر هو حلم الشخصيات، وبما أنها شخصيات مراهقة، فإن الهجرة هي حلم وغاية الشباب اللبناني والسوري والفلسطيني.
عذابات الإختلاف
في العرض تبحث شخصيات المسرحية عن الصداقة، عن رغبة الإنتماء، تتصادم مع المجتمع الذي يفرض ثقافته عليها، وشخصيات تسعى إلى الرحيل والهجرة وتغيير المكان. حكاية الشخصية رانية جمال، هي التي تروي لنا عذابات المختلف، قلقه الدائم من الإشارة إليه بأنه مختلف، ليأخذنا المشهد إلى إدانة العنصرية. العنصرية فعل تقوم به الجماعة تجاه الفرد المختلف أو المتمايز. تذكرنا المسرحية بالصعوبات التي تعايشها صاحبة الجسد المختلف، صاحبة الثقافة المختلفة.
في المشهد الأخير، تقرر المجموعة بالكامل الرحيل أو الهجرة، كل من الشخصيات تتجه إلى يمين المسرح وتؤدي حركة تشبه حركة مجداف الزورق في البحر، كتعبير رمزي عن الرحيل والهجرة، بينما ترفض إحدى الشخصيات -رانية جمال- الرحيل. تبقى رانية شخصية وحيدة تؤمن بتغيير المكان وثقافة الواقع، بدلاً من الهروب، الهجرة والرحيل. لكن المشهد الأخير لا ينتهي حتى تعود الشخصيات التي اختارت الرحيل، إلى المكان الذي انطلقت منه. فتتجمع شخصيات المسرحية عند أقصى يسار الخشبة، ليردد الجميع قصيدة محمود درويش التي استُوحي منها عنوان العرض:
"أُطِلُّ، كَشُرْفة بَيْتٍ، على ما أُريدْ
أُطلُّ على شَجَرٍ يحرُسُ الليل من نَفْسِهِ
ويحرس نَوْمَ الذين يُحبُّونني مَيِّتاً ...
أُطلُّ علي صورتي وَهْيَ تهرب من نفسها
ماذا سيحدث لو عُدْتُ
طفلاً؟ وعدتُ إليكِ ... وعدتِ إليَّ
ماذا سيحدث ... ماذا سيحدث بعد الرماد؟
أُطلُّ على جَسَدي خائفاً من بعيدْ...
أُطلُّ على شَبَحي قادماً من بعيد..."
من بين العروض المسرحية التي هي نتاج ورشة عمل مع هواة، يتميز عرض "كأني أرى شبحي قادماً من بعيد" بلغته الحركية، الرمزية، الكريوغرافية. فنادراً ما حاولت تجارب مسرح الهواة الذهاب بعيداً في التعبير الحركي الرمزي والكريوغرافي الراقص، كما أن ميزته أنه يشكل نافذة للمتلقي يستكشف من خلالها موضوعات المراهقة المعاصرة، لنكتشف بأنها هي ذاتها الموضوعات التي تشغل ذهن البالغين والمحترفين: الصراع بين الفرد والجماعة، الإنتماء، الإختلاف.. الهجرة والرحيل أم البقاء والمواجهة؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها