تفتتح المخرجة المغربية مريم بن مبارك فيلمها "صوفيا"* بعنصرين: خريطة بصرية وإشارة نصية. أولاً، نرى امرأة ظهرها إلى الكاميرا، صورة ظليّة لها من شرفة تنظر منها إلى سماء لا نهاية لزرقتها يربض أسفلها بروفيل معماري للدار البيضاء. في المدى، يقف مسجد مهيباً وسلطوياً بين المباني الأخرى، الموجودة أسفله بشكل هرمي. بعد ذلك مباشرة، نقرأ الفصل 490 من قانون العقوبات المغربي. نصف دقيقة تقريباً (15 ثانية لصورة المرأة، و13 ثانية للنصّ)، ورغم ما يبدو من بساطة العنصرين الافتتاحيين، فإن مريم بن مبارك قد حددت للتو ما ستفعله طيلة الـ 80 دقيقة المتبقية من زمن فيلمها.
إنها تفعل ذلك على مستويات عديدة، ليس كبداهة فطرية تقدّم اختزالاً مخلاً، وإنما كضرورة لفهم قصة بطلتها، التي يحمل الفيلم اسمها، وهي شابة مغربية تنقلب حياتها بشكل غير متوقع بعد تعرضها "لإنكار الحمل". وهذا، بشكل عام، نوع نادر من الحمل الذي لا تمر فيه الحامل، لأسباب سيكولوجية، بأي من الأعراض المعتادة (مثل الدوخة أو القيء، إلى ما هو أكثر خطورة متمثلة في عدم حدوث أي تغييرات على الجسم). لذلك، لا تعي صوفيا بحملها حتى تلد. المشكلة هي أن صوفيا، كما يمكنك أن تتخيل، ليست متزوجة. الخيار الوحيد المتبقي لتجنب السجن (وتجنب فقدان شرفها وشرف عائلتها) هو العثور على زوج في أقل من أربع وعشرين ساعة.
يواجهنا الفيلم بفتاة اختلّت حياتها تماماً بسبب أمومتها، لكن مشكلتها الحقيقية هي اختبار ذلك كامرأة صغيرة وحيدة في مواجهة الجميع. وهو ما يعيدنا إلى اللقطة الافتتاحية: امرأة شابة بمستقبل واعد أمامها، محصورة بتقاليد بيئتها، تنظر إلى سماء لا نهاية لها، لكن تخترقها مأذنة مسجد. يعكس هذان التفصيلان وضوحاً يميّز الفيلم في ما يتعلق بما يريد إظهاره (الأمر الأساسي لفهم السياق، في هذه الحالة، مادة في قانون العقوبات المغربي)، وكذلك في ما يتعلق بما لا يريد إظهاره. ثمة مشاهد خارج الكادر توفّر سياقاً اجتماعياً-اقتصادياً-دينياً، لا يراها مشاهدو الفيلم، لكن يظل بإمكانهم استشعارها، كلٌ حسب موقفه وخلفيته. بالمقابل، إجرائية تنفيذ ذلك النهج تبرهن على كفاءتها عبر ما تحققه بجمعها بين كلا المفهومين. أي أن هذه الفعالية تكمن، أساساً، في إيجازها، والذي يقود الفيلم إلى القيام بمهمة مزدوجة: إزاحة كل ما من شأنه إعاقة حركة الفيلم بدفع الأحداث إلى الأمام دائماً، والضغط على كل عنصر يقوم بهذه الوظيفة لإثرائه بصورة غير متوقعة. باتباع هذا المنطق، يتم تضمين فقط ما هو مطلوب. لا شيء آخر. يستخدم الفيلم الحدث كمحرِّك ووسيط للسرد (ومن ثم لدقائقه الثمانين جميعها)، بحيث في كل مرة يتم تضمين مشهد، يأتي كنتيجة مباشرة للمشهد السابق وسلفاً للتالي، دون ترك مساحة للبحث عن التجاوز. بعبارة أخرى، إذا قمنا بإزالة أي مشهد، فإن القصة تفقد منطقها. رغم أن هذا، من ناحية أخرى، لا يعني اقتصار الفيلم على سرد بعض الحقائق المتتالية.
يصل "صوفيا" إلى ما هو أبعد من سباق بسيط ضد الساعة، ليصبح قصة ذات قوة عاطفية (ودفاعية)، عرضياً وعفوياً، محافظاً على تعقيد سياق حكايته بدلاً من استسهال تفسيرها وليّ أعناق منطقية كثيرة لرصّ مشاهد تتحدث فيها دمى آدمية بلسان المخرج وأفكاره المسبقة عن مأزق الحداثة العربية أو حقوق النساء المجهضة ضد الوصاية الأبوية أو أي من الموضوعات الأخرى المثيرة لدعاة التنوير الفكري عربياً. ما يُبعد "صوفيا" عن غيره من أفلام "نسوية" عربية، هو آدميته واحترام مشاهده، عبر تقديم معالجة مختلفة لقضية مألوفة من السهل جرّها، تحت إدارة أيادٍ مستهترة، إلى مناطق خطابية فاقدة التأثير.
"صوفيا" ليس قصة عن المغرب فقط، وليس قصة عن المجتمع فقط، وليس قصة حول التسلسل الهرمي للسلطة فقط. إنه قصة عن امرأة، تحدث في سياق معين، لا يلقّمه الفيلم لمُشاهده، بل يُشعره به، في عملية سينمائية حدسية تلتفت إلى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لمسألة السلطة والوصاية بين مختلف طبقات المجتمع المغربي. لا يتعلق الفيلم بالعواقب بقدر ما يهتم بتجنبها. لا ينجرّ إلى الإظهار والمباشرة في تقديم محاور الظلم الاجتماعي، أو الاكتفاء بتقديم فئة اجتماعية كمجرد ضحية، أو تطعيم الفيلم بأشخاص ملتحين بوجوه عابسة ودوغمائية دينية، وهو الشائع في الأفلام العربية "التنويرية" (كما أتحفنا التونسي محمود بن محمود في فيلمه "فتوى"). لا يوجد أي مشهد حيث تحتجز الشرطة صوفيا في وسط مستشفى، للتأكيد على السياسي (على مثال ما فعلت التونسية كوثر بن هنية في فيلمها "على كف عفريت"). كما لا سبيل هنا لتأكيد الظلم بحق البطلة عبر خطاب مظلومية أو تحويلها إلى بطلة، بل بتقديمها، الشجاع، كناجية.
بوعي وذكاء، لا يسبح "صوفيا" أبداً ضد التيار، على الرغم من النتيجة السينمائية المضمونة والمعروفة للسير في هذه الاتجاه المثير لاهتمامات ناسٍ ومؤسسات معينة. يجد الفيلم أفضل ميزاته في القيام بالعكس، بالسباحة مع التيار. وكلما كان أسرع، كان ذلك أفضل. تطبيع الاضطهاد (على أساس النوع الاجتماعي، والدين، والطبقة)، كما يظهره الفيلم، يترافق مع تفاصيل دقيقة مثل استخدام اللون (الأزرق الذي يميز جميع الأحياء، الغنية والفقيرة على حد سواء)، والتقسيم المكاني لفصل الشخصيات اجتماعياً (عدم الخوض في التفاصيل، والمحادثة التي تجريها عائلتان) أو عبارات بسيطة ("سمعت أن المنازل هناك رائعة")؛ تعمل على توسيع أفق الجمهور. لا حاجة لإظهار المزيد، لأنه مع لمحة عن ذلك العالم يمكننا بناء بقيته في أذهاننا.
هذا النهج يعمل بشكل مثمر للغاية عندما يتعلق الأمر بخلق وتطوير إيقاع محموم يعلي توتر السرد، ولكن في الوقت نفسه يجعل الفيلم في معركة مستمرة ضد وجوده، إذا جاز التعبير. فمع إدراك بن مبارك أن ما يقوله فيلمها لا يفترض تجديداً موضوعياً كبيراً، تستلزم رغبتها في مناشدة جمهور واسع، عبر الاستقصاء والمشاركة لا الخطابية والأطروحات الجاهزة، الحدّ قليلاً من إبداعيتها. لكن في الواقع، لا يتوقف الإيقاع حتى آخر لقطة، حيث، مثل الأولى، نلتقي بالبطلة مرة أخرى. هنا أيضاً، نراها بمفردها، لكننا نراها الآن ونتعرّف عليها وجهاً لوجه. لقد اختفت ضخامة الاحتمالات المستقبلية. لم يعد هناك أثر للسماء الزرقاء. الآن مستقبلها هو نفسها. مزيج من السعادة والمرارة والتوافق. وإذا كانت اللقطة الأولى من الفيلم قد حددت الصراع الذي كان على وشك الحدوث، فإن حجم ما يُقال الآن أكبر بكثير. مرة أخرى، إنها خمس عشرة ثانية، لكن ما تستطيع تحديده بلقطة بسيطة هو حياة كاملة. حياة مع التيار.
(*) يُعرض حالياً في سينما "متروبوليس".
حصل الفيلم على جائزة أفضل سيناريو في مسابقة "نظرة ما" بمهرجان كان السينمائي 2018.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها