النقاش لم يكن شعرياً تماماً، إذ قلّما أنكر المجادلون شعرية الـ "وتريات"، على الأقل نصف القصيدة كما أشار برقاوي في مقالته، فهناك من أدرج القصيدة، وبالتالي شاعرها، تحت عنوان "اليسار الطائفي"، أو "اليسار الأقلوي"، معتبراً أن "المقالة تقدم صورة جليّة عن نسبة كبيرة من مثقفي الأيديولوجيات العربيّة القوميّة واليساريّة في القرن العشرين، ممَّن تدثَّروا كذباً وبُهتاناً برداء الحداثة والعروبة والاشتراكية والتقدمية، وهم لم يخرجوا من عباءات انتماءاتهم الطائفية الضيقة،.."، بحسب الكاتب السوري مازن أكثم سليمان.
برقاوي ينسب النواب إلى "شعراء المرحلة الأيديولوجية القومية والشيوعية التي ازدهرت منذ نهاية الخمسينات"، ويرى فيه "شاعر التأفف من الوضع العربي والسلطات العربية"، ثم يسوق الدلائل على أن الشاعر في قصيدته تلك إنما "يعيد السردية الشيعية المتوارثة التي تقيم فصلاً كاملاً بين الخير والحق الذي يمثله علي وشيعته، من جهة والباطل والشر الذي يمثله معاوية وشيعته، من جهة ثانية".
يحاول الشاعر تفسير العالم ومحاكمته بنسبته إلى رموز تلك السردية (الشيعية) التي يراها تتكرر مجدداً في شخصيات سياسية معاصرة.
أبرز الردود على مقالة برقاوي واحد اتهمه هو نفسه بالطائفية تحت عنوان يقول
"رأس الحسين على رمح النقد"، أي أن نقد برقاوي، لمجرد محاولته تفكيك الـ "وتريات"، يعيد اغتيال الحسين وقطع رأسه مجدداً! كذلك سنجد من بين المدافعين عن القصيدة من يقول إن رموز السردية الشيعية ما هي إلا المناخ الذي نهل منه الشاعر، كأي شاعر معاصر ينهل من أسماء الآلهة وأساطير اليونان.
ولا يبدو أن لبرقاوي مشكلة مع خيارات الناس وانتماءاتهم، إذ هو يختم بالقول: "لا شك بأن الشاعر، وغير الشاعر، حرّ في خياراته الانتمائية،.. لكن الشخصية التي تعيش عوالم متناقضة تغترب بهوية ماضوية لا تستطيع أن تعلن عن نفسها بأنها شخصية كلية فوق تناقضات الماضي الذي لا يعود. إننا ونحن نكشف عن المكبوت الطائفي في "وتريات ليلية" فإنما أردنا أن نشير إلى أن الشاعر وغيره لا يستطيع أن يعلن انحيازه للحياة دون التحرر من أغلال الهوية الضيقة الماضوية".
مثل هذا الجدل سنراه يتكرر بين الفينة والأخرى، بخصوص النواب أو سواه من رموز العقود الشعرية والثورية السالفة. فلا شك أن المتغيرات التي تعصف ببلداننا تهدد الجغرافيا قبل التاريخ، فما بالك بتجربة شعرية، بقصيدة هنا أو لوحة هناك. لقد بلغ الأمر بالناس أن استحضروا الأموات من رموز الثقافة والأدب والفكر مستنطقين إياهم بمواقفهم إزاء الربيع العربي، فما بالك بالمعاصرين.
يمثل مظفر النواب ظاهرة خاصة في الشعر المعاصر، فهو ليس ديوان شعر مطبوعاً، إنه الأشرطة القديمة المسجلة والمهربة التي تسمع خلسة، أو هو، في الآن نفسه، الأماسي الحاشدة الهادرة والغاضبة. ولعل من استمعوا إلى أمسياته أو أشرطته وجدوا فيها ما يلائم الغضب والقهر والسخط على السلطات بكافة أشكالها، لذلك كان الحزن فيها، أو الصراخ والشتائم تماماً على وجع الجموع وجروحهم. لقد صفقوا لتلك القصائد من دون تدقيق.
لكن ما تسوّقه المنابر وحُسن الإلقاء سيظهر مكشوفاً عند الطباعة على الورق، الكثير منه لن يصمد أمام قراءة هادئة تتوخى الشعر، بعيداً عن الصخب.
هكذا جاءت قصيدة "في الرياح السيئة يعتمد القلب"، التي يطلق عليها البعض أحياناً أسماء مثل "الأساطيل" أو "جهيمان"، صدمةً لمن حفظها وردّدها طويلاً، مأخوذاً بعبارة لامعة أقرب إلى الحكمة العتيقة "في الرياح السيئة يعتمد القلب"، أو بلافتة حاسمة "بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة"، وكأنه انتبه فجأة: "من هو جهيمان هذا!".
لقد سجّل وثائقي لـ "بي بي سي" بعنوان "حصار مكة"، عرض منذ شهور، تفاصيل اقتحام جهيمان وأتباعه للحرم المكي. إنه إرهابي سعودي استولى في العام 1979 على المسجد الحرام في مكة بقوة السلاح، تماماً عند صلاة الفجر، مع كميات كبيرة من السلاح أدخلت في نعوش. دخل المسجد مع مئتين من أنصاره، معلناً ظهور المهدي، الذي لم يكن سوى صهره محمد القحطاني، مروعاً آلاف الحجاج، ومهدداً بالقتل كل من يخالف بيانه.
خمسة عشر يوماً والمعارك دائرة داخل المسجد بين القوات السعودية ومحازبي جهيمان العتيبي إلى أن استسلموا مخلّفين عدداً من القتلى والجرحى من بينهم حجاج أبرياء.
من نافل القول إن القرآن حرّم القتال داخل الحرم، فلن تجد شريعة في الأرض تبيح القتال في مكان للعبادة، إلا شرائع الأنظمة المتوحشة، وكذلك لن تجد شريعة تبيح الاعتداء على مصلّين أو مدنيين، أو اتخاذهم رهائن، أياً كان الهدف.
لكن قصيدة مظفر النواب صوّرت جهيمان كبطل أو نبي:
"يا جهيمان حدّق، فما يملكون فرائضهم/نفذت.. زرعتهم قرحاً/ ونفذت بعيداً فأصلابهم عاقمة/ فإذا طوّفوا كان وجهك/ أو سجدوا فالدماء التي غسلوها/ تسدّ خياشيمهم ومناخيرهم/ وقلوبهم الآثمة".
بل إن القصيدة تذهب أبعد من هذا المديح لتهجو اليسار الذي لم يقف إلى جانب جهيمان: "لم يناصرك هذا اليسار الغبي"!
والأخطر من كل هذا تلك الدعوة الصريحة إلى السلاح في مكان العبادة: "أيها الناس: أعلن أن الحجيج سلاحاً بمكة في السنة القادمة/ كافرٌ من يحجّ بدون سلاح". وهي دعوة تذكر بالمحاولات الإيرانية السنوية الدؤوبة في التشويش على شعائر الحج، وبجهود تسييس هذه الفريضة.
في الواقع، ومع دعوات كهذه إلى السلاح في مكان آمن للعبادة، أو مع تمجيد لإرهابي أقرب إلى المختل عقلياً، لم يعد مهماً إن كان الشاعر طائفياً أم لا، أو إن كانت تلك الدعوات تتساوق مع نزعات دينية، طائفية، أو سواها، يكفي هذه التحريض على الدم، وفي أكثر الأماكن (والأوقات) حرمة.
فوق ذلك، كان أحمد برقاوي محظوطاً بعض الشيء وهو يتناول قصيدة نصفها شعر، فمع قصيدة "جهيمان" لم نكن إلا أمام صراخ خالص، سخط، وتكفير، وشتائم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها