شغل اقتحام 4 متظاهرين(ات)، مباراة فرنسا وكرواتيا، الرأي العام ووسائل الاعلام. فبعد مرور دقائق على الشوط الثاني من المباراة، الأحد، نجحت ثلاث نساء، ورجل، في مغافلة الإجراءات الأمنية المشددة في استاد لوجنيكي في موسكو، وتمكن ثلاثة منهم(ن) من تعطيل المباراة لثوانٍ قبل أن يبعدهم أفراد الأمن، بمساعدة لاعبين كروات، إلى خارج المستطيل الأخضر، لكن ليس قبل أن تتمكن إحدى المفتحمات من تحية النجم الفرنسي كيليان مبابي، وتمت إدانة ثلاثة من المقتحمين(ات)، "بانتهاك قوانين سلوك المتفرج بشكل فاضح"، وحكم عليهم بأقصى العقوبات، السجن 15 يومًا.
بالطبع الاقتحام يحمل الكثير من الدلالات في الشكل والمضمون والتوقيت، فهو ليس نزوة متفرجين ومتفرجات، او هذيان معجبين بكرة القدم، أو افراد من الهوليغانز الانلكيزي. فبعد انتهاء المباراة، اتضح أن مقتحمي نهائي المونديال هم أصحاب رسالة سياسية احتجاجية ميديائية مألوفة، بل ويمثلون أحد أكثر الأسماء إثارة للجدل في المجتمع الروسي في العقد الجاري، هي فرقة موسيقية تعرف كيف تقتنص اللحظة المناسبة لتلفت انتباه العالم الى مواضيع دقيقة وحساسة وحتى غرائزية، "بوسي رايوت" (Pussy Riot: الشغب الأنثوي وتعني حرفياً شغب المهبل). وهي فرقة روك بانك نسوية روسية مقرها موسكو، تعرف كيف تجلب الصداع للقيصر فلاديمير بوتين بأبسط الادوات والطرق الممكنة تحدث ضجيجاً اعلامياً وميديائيا، من خلال عروض عن الحياة السياسية في روسيا في أماكن غريبة ومحورية مثل ظهور الباصات الكهربائية، أو على سقالة في مترو أنفاق موسكو، أو في الكنائس أثناء الصلوات، وهذه المرة في مباراة كرة القدم أمام ملايين الناس في الملعب وأمام الشاشات وكاميرات المصورين... وكان لافتاَ أن النساء يمارسن احتجاجهن بابتسامة عريضة وفرحة، كأن الضحك وسيلة ناجحة لمواجهة عبوس السلطة وتجهمها.
وأعلنت فرقة Pussy Riot مسؤوليتها عن الاقتحام، مشيرة في بيان إلى أن هذا الاقتحام نُظّم لجلب الانتباه إلى المظالم السياسية في روسيا البوتينية، وذلك في الذكرى 11 على رحيل الشاعر السوفياتي ديميتري بريغوف والذي كان من معارضي النظام في حقبة الاتحاد السوفياتي، وهو استخدم مصطلح "الاخلاص الجديد" في منتصف الثمانينات – أوائل التسعينات كنقيض للعبث المتزايد للثقافة السوفياتية السابقة وما بعد السوفياتية.
ودعت الفرقة إلى إطلاق سراح السجناء السياسيين، ووقف اعتقال المتظاهرين المعارضين، ولإنهاء سجن المواطنين بسبب نشاطهم في وسائل التواصل الاجتماعي. كذلك، أشار بيان الفرقة إلى قضية المخرج أوليغ سينتسوف، وهو صانع أفلام أوكراني حُكم عليه بالسجن لمدة 20 عاما العام 2015 بعد اتهامه بالتآمر لتفجير نصب تذكاري للينين ومقر حزب روسيا الموحدة في القرم في العام 2014، ونال آنذاك حُكماً بالسجن 20 سنة بتهمة "التآمر لارتكاب أعمال إرهابية" في 2015، بالرغم من أن سينتسوف نفى تلك الاتهامات، ودخل في إضرابٍ عن الطعام منذ منتصف أيار/مايو الماضي. مع التذكير أن الكثير من معارضي القصير إما اغتيلوا او قتلوا بطريقة ملتبسة.
أما سبب إرتداء النساء بدلات رجال الأمن قديمة الطراز، فيعود إلى سجن الشاعر الروسي بريغوف الذي صنع صورة رجل الأمن المثالي في الثقافة الروسية وسُجن بسببها. وارتداء النساء لبدلة رجل الأمن (الشرطي)، ما هو إلا تسجيل اعتراضٍ على دور رجال الأمن الروس اليوم، ومقارنة بينهم وبين رجل الأمن "المثالي". وما فعلته فرقته Pussy Riot، ربما الحادث الوحيد البارز الذي كسر الانضباط التنظيمي الذي فرضه نظام بوتين وفرقه الأمنية والقيصرية على مونديال 2018، اذ بدأ عملهم منذ أشهر لمنع أي خرق يحدث بلبلة في مجريات المونديال الحدث.
النافل أن فرقة Pussy Riot لديها سوابق كثيرة، فأعضاء الفرقة، لا يقدمون تلك العروض طمعاً في شهرة أو انتشار، بل من أجل إبراز المعارضة السياسية لبوتين. وشهدت كنيسة المسيح المنقذ او المخلص، أولى عروض الفريق، في 21 شباط/فبراير 2012، حيث قدم أعضاء من المجموعة عرضاً في مبنى كنيسة في موسكو، أدوا خلاله أغنية تنتقد بوتين ومساندة الكنيسة الروسية له، وتقول الاغنية "أيتها الأم المقدسة اخرجي بوتين!". أُلقي القبض على أعضاء الفرقة حينها، وحكم على اثنتين منهن بالسجن عامين بعدما أدانهما القضاء بـ"محاولة تقويض النظام الاجتماعي" والتحريض على الكراهية الدينية.
ومنذ تلك الحادثة، تحولت الفرقة إلى رمز للاحتجاج على نظام بوتين، ربما يكون صداها اقوى من معظم الاحزاب الروسية. وقالت ناديجدا تولوكونيكوفا، العضو في فرقة "بوسي رايوت" إن الثورة في روسيا أمر لا مفر منه، ووصفت نظام بوتين بأنه يذكرها بالمجتمعات القبلية ونظام الحكم الديكتاتوري الذي كان في الماضي.
كما قامت الفرقة بعرض آخر في 2014 في مدينة سوتشي، أثناء إقامة دورة الألعاب الأولمبية، وقدمت أغنيتها المشهورة "بوتين سيعلمكم حب الوطن"، وكلماتها "بوتين سيعلمكم حب الوطن، ففي معسكرات الاعتقال سيعلمكم الصراخ، وطاعة المسؤولين وأداء التحية لهم".
ومن بعدها، انتج الأميركي ديفيد أندرو سيتيك اغنية "تشايكا"، ليدين جرائم القتل والرقابة السلطوية التي باتت في نظر الفريق ممارسات عادية وشائعة في ظل حكم بوتين. يفتتح الشريط بواحدة من أعضاء الفريق "بوسي رايوت" ترتدي زياً عسكرياً وتأكل بشراهة وخلفها بقية الأعضاء، ثم تنطلق الموسيقى بلازمة تتردد على طول الأغنية وتقول "كن ذليلاً.. أطع" على خلفية صورة كبيرة لبوتين. ويستمر الفيديو لتمثل فيه الفتيات دور حارسات السلطة القمعية التي تعذب السجناء وتقتلهم، فيما يتمتع أفرادها برفاه "قضاء العطلة في البندقية أو نيس". أما اختيار تشايكا فجاء على خلفية فضيحة مدوية هزّت الكرملين في كانون الأول/ديسمبر 2015، بعد مزاعم أطلقها المحامي والناشط السياسي البارز أليكسي نافالني، اتهمت المدعي العام واثنين من ابنائه بغسيل الأموال والإثراء المشبوه.
"بوسي رايوت" قالت في بيان "نطالب بتحقيق فوري حول النائب العام تشايكا وعائلته والمسؤولين الكبار الذين يعملون معه.
وتخطت أعمال Pussy Riot الحدود الروسية، وبعد
التصريحات الفاحشة للرئيس دونالد ترامب خلال جولاته الانتخابية ومفاخرته باجتذاب النساء من فروجهن، تلقى ردّاً باللهجة البذيئة نفسها التي تحدث بها منذ أكثر من 10 سنوات وتسربت إلى الإعلام لاحقاً. فقد أطلقت فرقة "بوسي رايوت" المعروفة بألفاظها الفاحشة، أغنية "سترايت آوتا فاجاينا". وأصرّت الفرقة الروسية في الأغنية على تمجيد الأعضاء الأنثوية التي تناولها ترامب بطريقة اعتُبرت مقززة وأثارت سيلاً من الانتقادات ضده. وخاطبت تولوكونيكوفا، ترامب، قائلة: "لا تتغابى، لا تكن أحمق. الفَرْج هو المكان الذي خرَجتَ منه"، واختتمت بالقول "الفَرْج أكبر من ترامب".
"بوسي رايوت" فرقة صغيرة، في حراكها المناسباتي الثاقب تحدث مفعولاً كبيراً، من دون نظريات كبرى أو منظرين استراتيجيين، ومن دون حشود وطوائف، ومن دون مظلوميات أو حرق إطارات وعنف، من دون مرشد أعلى. هي فرقة صغيرة تعرف كيف تقوم بحركاتها، تعرف كيف تختار كلمات اغانيها وحركاتها في الزمان والمكان المناسبين.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها