"على كف عفريت".. الشجاعة وحدها لا تكفي

ما ترينا إياه بن هنية في "على كف عفريت"، مستوحى من قصة حقيقية حدثت في تونس بعد الثورة، تحديداً في أيلول 2012، حين صودف مرور دورية شرطية، ذات ليلة، بشاطئ عين زغوان شمالي العاصمة التونسية، أثناء وجود فتاة رفقة صديقها في جولة على متن سيارة. في بلد آخر، لم يكن لينتهي الأمر إلى حادثة اغتصاب يرتكبها أفراد الشرطة بحق الفتاة التونسية البالغة من العمر 27 عاماً، لكن هذا ما حدث. تفاعلت قضية الفتاة المغتصبة وتحولت إلى قضية رأي عام في تونس، وبعدها بعام نشرت مريم بن محمد (اسم مستعار للضحية) بالاشتراك مع الصحافية الفرنسية آفا غامشيدي، كتاباً باللغة الفرنسية بعنوان "مذنبة لأنني اغتُصبت" (منشورات ميشال لافون) وثّقت فيه ما تعرّضت له من انتهاك جسدي خلال تنقلها بين المستشفيات وأقسام الشرطة.

هناك لامبالاة في العيادة الخاصة، وفوضى في المستشفى العام، وامتعاض من وجود امرأة ترتدي فستاناً عارياً "وفقاً للمعايير التونسية"، وركود بيروقراطي بين الطبيب الشرعي والشرطة. لا قضية بلا تصريح، لكن ماذا لو كان ضباط الشرطة هم الجناة؟ في الفيلم يحاول كل من مريم (مريم الفرجاني) ويوسف (غانم زرلي) إثبات واقعة الاغتصاب بالطرق القانونية، لكنهما يجدان نفسيهما في مواجهة تهمة المجاهرة بفعل فاحش في الطريق العام وخدش الحياء.



تسعة فصول في تسع لقطات طويلة تذكّر بفيلم غاسبار نوي "لا رجعة فيه"، الذي يتابع حكاية اغتصاب فتاة باريسية في أحد الأنفاق ليكون على صديقها وحبيبها السابق الانتقام لكرامتها. مثل المخرج الأرجنتيني، تستخدم بن هنية اللقطات الطويلة المشهدية لإدخالنا في المأساة الكابوسية للشابة مريم. لكن، على عكس نويه، فإن بن هنية تعرض صورة فظة للسخط الذكوري، حتى يبدو "على كف عفريت" في النهاية ليس سوى فيلم نوع بموضوع ساخن مصمم خصيصاً لإثارة الانتباه من ناحية، ولجعله حصيناً ضد أي رصاص نقدي من ناحية أخرى. مريم تلاحقها مصيبة يعقبها نجاة، بشكل متكرر، في سلسلة تشبه مطاردات فيلم رعب تقليدي، فقط مع شعور أكبر بالأهمية الذاتية، لأنها تمثل رمزاً ما، ربما لتونس أو للثورة أو للمرأة التونسية القابعة تحت الوصاية الذكورية. وفي حال إبهام فظاظة العنوان الفرنسي والإنكليزي للفيلم (الجميلة والكلاب) على الجمهور الأجنبي، فإن مشهداً واحداً يبدو دخيلاً على السرد سيتكفل بذلك، حين تلقى مريم بنفسها إلى إحدى حجرات مركز الشرطة الذي تذهب إليه لتسجيل شكايتها عقب تعرضها للاغتصاب، لتجد نفسها في مواجهة عدد من الكلاب المقنطرة النابحة في وجهها بينما يعلو صراخها الهستيري.

تعاملت المخرجة والمؤلفة بحرية نسبية في إعادة تقديم الحادثة التي شغلت الرأي العام التونسي في حينها، لإعطاء قيمة رمزية لقصة مريم ولإبراز معالم الاستمرارية المزعجة بين النظام الجديد والقديم، فيما يتعلق بالعنف تجاه النساء وانتهاج الابتزاز الذي يثقل كاهل المجتمع المدني في تونس وغيرها من البلدان العربية التي تتهددها أخطار الإرهاب واحتمالات اندلاع صراعات أهلية، خاصة عندما لا تتمتع السلطة السياسية بالقوة المعتادة في الديكتاتوريات الناشئة وحين يصبح الأمن والحرية واحترام الحقوق المدنية البديهية مسائل يقف فيها ممثلو السلطة والمواطنون على طرفي نقيض. وبالإضافة إلى ذلك، اعتزمت بن هنية إعطاء هيكل درامي تؤطره حبكة في 9 فصول، بينما المشهد الأم، مشهد الاغتصاب، يختفي في فجوة شكسبيرية، بين الفصل الأول والثاني، ليظهر بشكل غير مباشر في أحد الفصول المتأخرة من الفيلم على شاشة هاتف واحد من رجال الشرطة المعتدين.



يمثل "على كف عفريت" مثالاً جيداً على مستوى الجيل الناشئ للسينما التونسية المرتبطة بشكل متجدد بالأسواق العالمية وشبكة المهرجانات الدولية، حيث يقف وراءه المنتج حبيب عطية، الذي يسير على خطى والده الراحل أحمد عطية (منتج أفلام "صمت القصور" لمفيدة تلاتلي و"عصفور سطح" لفريد بوغدير و"ريح السدّ" لنوري بوزيد)، كما حصل الفيلم على دعم صندوق وزارة الشؤون الثقافية التونسية والمركز الوطني للسينما، في إشارة إلى إرادة تونسية جديدة ربما لا تخشى النظر بشجاعة إلى حدود ديمقراطيتها الهشّة. لكنه أيضاً واحد من أفلام الإنتاج المشترك، كما هي جميع أعمال كوثر بن هنية، الذي يشمل داعمين من ست دول أخرى بخلاف تونس، هي فرنسا والسويد والنروج ولبنان وقطر وسويسرا. هذا يفسّر الكثير من الصورة النهائية التي ظهر بها الفيلم الذي تقدّمه بن هنية بالأساس لعين أوروبية لم تر سوى المظاهرات وعنف الشرطة في الشارع التونسي وقت الثورة، في حين تحضر حكاية "على كف عفريت" لتضع فتاة قروية غير مُسيَّسة في قفص الكلاب /الشرطة/ السلطة ليكون عليها مواجهة الدولة في صورتها البشعة التي لم تعرفها على الأغلب في حياتها الخالية من الأحداث الكبرى.

في فيلمها السابق المحتفى به "زينب تكره الثلج"، استطاعت بن هنية مواراة الضعف والنمطية الشديدتين للفيلم خلف طزاجة موضوعه حول رحلة العبور المزدوج، من الطفولة إلى المراهقة ومن تونس إلى كندا، التي تخوضها طفلة تونسية، هي قريبة المخرجة. لكن في "على كف عفريت" فإن المصفوفة التعبيرية لسينما بن هنية تحضر بمشاكلها نفسها التي ظهرت سابقاً في "شلاط تونس"، وهو وثائقي مُختلَق ومُضلِّل في أغلب فتراته حول هوية أحد الشباب المهووسين بالاعتداء على النساء عبر إصابتهم بنصل حادٍ من فوق دراجته البخارية.

في القلب، هناك خلط أوراق بين الوثائقي والروائي، بين ما هو حقيقي وما هو تمثيلي، يكشف عن لامبالاة مثيرة للقلق تضرب المنطق العميق لفكرة الفيلم نفسه. فإذا كانت التسجيلية الهزلية ولعبة الميتا فيلم في "شلاط تونس" قد أغفلتنا جزئياً عن إهمال وقلة سيطرة واضحتين في إدارة القصة. فهنا تعود المثالب نفسها بمزيد من الأدلة التأكيدية، لكن مضخمة بسبب عدم اليقين العام حول النظام الدرامي السائد، الذي يتذبذب بين طبيعية أو واقعية حدثية يفرضها اختيار اللقطة الطويلة وبين إشارات متكررة إلى الأنماط الجندرية تبدو في مباشرتها موجودة فقط لتأمين الدعم المالي من المانحين الأجانب، تنزلق أحياناً بشكل مزعج ومربك إلى أرض سينما الهواة التي تدفع القصة دفعاً لمسار محدد معلوم سلفاً.

يشهد الفيلم على درجة عالية من الطموح التقني لدى صاحبته، لكنه، في الجانب الآخر، يكشف توازناً مفتعلاً ومحدودية واضحة في السيطرة على كامل الفيلم، بداية من الكاستينغ وتوجيه الممثلين داخل المشهد وضبط الانفعالات وترشيد الوقت. من المؤسف والحال كذلك، أن يأتي التمثيل ضعيفاً بصورة مرعبة في فيلم يختار اللقطة الطويلة عماداً له. مريم الفرجاني لديها رصيد تمثيلي من الأفلام القصيرة ودرست في مدرسة لوتشينو فيسكونتي للسينما في ميلانو، وغانم الزرلي وجه معروف نسبياً للمشاهد التونسي، لكنهما يطفوان في تيار من الصور المجمعة بطرق متزعزعة تسعى لتضفير ما يشبه الفيلم.

كونه قصة حقيقية، تحولت بالفعل إلى هيكل سردي بيوغرافي، مع قيمة رمزية ذات صلة بمكافحة السلطة الأبوية التي تقاوم أي تغيير مؤسسي؛ يقودنا إلى تقدير الشجاعة السياسية لمن ساهم في صنع الفيلم، لكنه في الوقت ذاته يضخّم الفارق بين المشروع الفني والناتج عنه. على الورق، تتضمن قصة الفيلم بعض الأفكار الجيدة، تبدأ من استخدام القطع بين الفصول الفيلمية وبشكل عام يمتلك بعض الترابط والفعالية، وأيضاً على مستوى الحوارات التي تعيد المنطق الكافكاوي للعنف المؤسسي، بلعبها دائماً على الخيط الفاصل بين قواعد من شأنها حماية حقوق المواطن/ة (على سبيل المثال، إلزام ضحايا الاغتصاب بتقديم شكوى رسمية إلى الشرطة من أجل السماح لها بالعرض على الطبيب الشرعي لإثبات حالتها)، وبين سلوكيات ترهيب المدعين المحتملين التي ينتهجها أفراد يفترض بهم إنفاذ القانون، ملقية كل ذلك أمام عواقب أسرية واجتماعية في انتظار الفتاة الضحية في نهاية المطاف. هذه الطريقة تعمل، وإن كان وفقاً لمنطق مسبّق وتبسيطي للغاية، ليس أدل عليه من اختيار ألا يكون مريم ويوسف حبيبين ولكن شابين تدفعهما الرغبة لقضاء ليلة حب، ثم يجدان أنفسهما في فخ جهنمي، أحدهما صاحب علاقة أكثر وضوحاً مع السلطة، بينما الآخر أكثر سذاجة ومنغلق في روتين الدراسة دون مطالب كثيرة.

مشكلة "على كف عفريت" هي قصور واضح في فهم العناصر الأساسية للتجربة السينمائية كتصميم متلاحم، من اختيار اللوكيشن وإدراة الإضاءة إلى كتابة السيناريو وضبط الميزانسين. يبدو الأمر كما لو أن المخرجة اعتمدت على قوة القصة وزخمها الإعلامي وتعاون فريق العمل، مراهنة على احتمال، سحري على الأغلب، سيقضي بأن الأشياء ستذهب إلى مكانها الصحيح أثناء التصوير، بفضل معطيات وظروف معينة. ولسوء الحظ، لم يكن اختيار مواقع التصوير موفقاً، ولا إدارة ممثلين مذبذبين (لم ينج تقريباً سوى أنيسة داوود التي قامت بدور الشرطية الحامل)، ولا حتى اللقطات التسع الممتدة لمائة دقيقة وصلت لطموح المشروع.

"رسائل" الفيلم المباشرة والمتعاقبة، رغم قوتها الآتية من تبسيطيتها واعتمادها منظوراً ثنائياً للبشر، تترجم إلى صورة لا تخدش وتبقى بعيدة من الكثافة المتوقعة من دراما سينمائية تلتحف بالثورة وبالدفاع عن حقوق النساء، بينما تقترب بشكل مهلك من أن تكون تسجيلاً يتضمن التباساً بصرياً وإعادة بناء هشة وفقيرة فنياً لحقائق يمكن العثور عليها في برامج التوك شو التي تزخر بالمواضيع الاجتماعية ذات الخلفيات السياسية.