قد يعتقد البعض عند حضور فيلم "ولاد بيروت"، أن في وثائقي المخرجة ساره سراج إجابة، أو حتى أن الهدف من الفيلم هو البحث عن إجابة/إجابات، ولكن سرعان ما يتضح للمشاهد غاية التوثيق الفني للتاريخ والذاكرة.
ولدت سارة سراج في بيروت وعملت في السينوغرافيا، ثم كمراسلة تلفزيونية. تعيش في باريس منذ ٢٠٠٩ حيث درست في المعهد العالي للفنون الجميلة، واستديو إلسا كايو، ثم تخصصت في صناعة الأفلام الوثائقية في لوساس. وقد عرض "ولاد بيروت" (فيلمها الطويل الاول) في دار النمر مؤخرا بعد أن عرض سابقا في سينما صوفيل ووزارة السياحة.
“كيف يُمكن ان أًحدد اليوم علاقتي مع الاماكن والأشياء في مدينة تفرض عليّ حالة وجد مشوب برثاء؟ في وقت أسأل ابي نادر عن عمله كموظف في الدولة خلال مرحلة اعادة اعمار بيروت، وأصور منطقة الدالية الواقعة على ضفاف المدينة، حيث سيتم اخلاء آخر عائلات الصيادين لإقامة مشروع خاص" هكذا تلخص سراج لغة الوثائقي وأسلوبه.
كثرت في الفيلم المقارنات الثنائية الخاص منها والعام: اذ تعود سراج في بداية الوثائقي إلى إعادة إعمار بيروت، ووسط البلد بعيد انتهاء الحرب الأهلية، دون التغاضي عن ذكرالإجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982. تتنقل منه إلى دالية بيروت اليوم، التي شكلت في السنوات القليلة الماضية موضع خلافي بين مدافعين عن بقائها نظرا لدورها كإحدى الواجهات البحرية لبيروت، التي لطالما مثلت مركزا للصيادين ومأوى لهم، مع التشديد على اهمية اتصال هذا المعلم بسكان بيروت على اختلاف اهتماماتهم: منهم من يلتقي فيه الاحبة، يجلسون على صخره أو في المقاهي المحيطة به، منهم من يجري فيه ابحاث على النبات والحجر، منهم من يتخذه مسكننا ومرفقا للصيد، واخرين لـ"كش الحمام"… تقارب بذلك المخرجة، في البعد الاول للفيلم، ارتباط الأمكنة بالناس وذكرياتهم، ان في الدالية أو في وسط بيروت القديم.
في بُعد آخر، تطرح سراج اشكالية تفكير وأفعال الجيل السابق (المتمثلة هنا في تهديم/اعادة الإعمار) في مقابل ردة فعل جيل الشباب اليوم (في رفض خصخصة الاماكن العامة خوفا من فقدان المزيد من محطات الذاكرة). وهنا، تخوض سراج في نقاش مع والدها الدكتور نادر سراج الذي شغل منصب "المستشار الإعلامي لمجلس الإنماء والإعمار" في فترة ما بعد الحرب.
في مقارنة على بعد ثالث، تتأرجح رؤية سراج الإخراجية بين الوثائقي البحت والفني، فتحاول التوفيق بين المشاهد الحيادية التصويرية والتركيبات الفنية التجريبية المضافة على بعض الصور والذكريات. تكمل ذلك المسار بإضافة صوتها الذي يلعب تارة دور الموثق للاحداث، وطورا دور الشاعر المرهف في وصف خاص ومنغمس للمدينة والمشاهد والناس.
أما في البعد الأخير، فتقدم المخرجة الشابة المدينة بالنسبة اليها من خلال ربط ذكرياتها وقصصها، بالذاكرة الجماعية العامة.
في النظر إلى الخطوط المتوازية الكثيرة التي تشكل دعائم فيلم ولاد بيروت، يتبين الحرص على عدم فقدان أي من تلك الخطوط أو غلبة خط على اخر. ويبلغ هذا الحرص الإخراجي حده في مواجهة سراج بأبيها، اذ يتوقف صراع الأجيال هذا في مرحلة بدائية، تنتقل منها المخرجة بملخص صوتي مفاده ان الحديث قد يطول والجدل على الإعتراف بمسؤولية الماضي لن ينتهي. ولعله بتأرجحه هذا، ينجح الوثائقي الشاعري بوضع المتلقي في حالة مشابهة لحالة ولاد بيروت الذهنية: في مخاض بحثي دائم عن ذاكرة المدينة وذاكرتهم. تبقى الحقيقة الغالبة الوحيدة في فيلم سراج متمثلة بـبيع "دالية بيروت"، وتعويض الصيادين الذين خرجوا منها. وحول تلك الحقيقة، حاكت المخرجة الشابة منفذ الحلم، بـحرية بناء لحظات فنية جمالية لولاد بيروت، حدودها شاشة رقمية. ولعل كثرة تصوير تلك النظرات الموجهة خارج حدود الإطار تساعد في بناء فضاءات جديدة للدالية في مخيلة من يشاهدها.
يستوقف المشاهد للفيلم كما استوقف المخرجة الشابة بحسب قولها خلال بحثها، صور لوالدها امام بعض الأبنية ذات الرمزية الخاصة له; ذلك لان في استعراض توليفة تجمع تلك المشاهد الأرشيفية المصورة قبيل انطلاق مشروع الاعمار، مصحوبة بصور احتفظ بها الدكتور سراج للذكرى، في ذلك تأكيد على اهمية تلك المواد للوالد الذي أبى إلا ان يحتفظ بها للتاريخ. وان دل ذلك على شيء، فهو يدل على مدى تقارب رؤية الاب والابنة في تقدير الذاكرة. وفي حين ان الإختلاف واضح في تصنيف وتبرير ما الت إليه الأمور، يبقى لدى الطرفين استشراف لحنين مستقبلي، واجهته سراج الابنة برسم بورتريه للدالية على شكل وثائقي، ورسمه الاب بأرشيف.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها