بعد توقف دام أكثر من سنتين، لم يعرف فيهما الفنان التشكيلي السوري عبد اللطيف الجيمو كيف يعود إلى الرسم في ظل الصدمات المتلاحقة، العامة منها والخاصة، التي لحقته كناشط وفنان ومواطن سوري؛ ومن تركيا، أنتج جيمو معرضاً، استطاعت فيه لوحاته الوصول إلى بيروت من دونه.
تكاد تكون قصة وصول تلك الأعمال إلى بيروت بقوة الأعمال المقدمة، فجيمو ملاحق يعجز عن تقديم أوراقه للحصول على جواز سفر. التقاه منذ أكثر من سنتين الناشط الفني ومسوول قسم الاضاءة في تلفزيون المستقبل نزيه ياسين، الذي وجد فيه قدرة فنية تستحق الدعم. أثمر تعاون ابن جرابلس السورية وابن طرابلس اللبنانية مرسماً للفنانين السوريين في تركيا، وهناك عمل جيمو على تقديم أكثر من 25 لوحة شحنت إلى بيروت بأحجامها الضخمة عبر توسط فنانة تركية تمكنت من تأمين الأوراق القانونية اللازمة.
اليوم، وبعد اختبار تلك اللوحات عينة من مأساة الهجرة والتهجير، تجلس تلك الجداريات بهدوء مهيب في مكتب stree في شارع مونو. ترد تلك النقاط الحمراء المجاورة لمعظم تلك اللوحات الاعتبار للمعاناة والكفاح للبقاء. فهي ليست دماءً زكية صامتة ولا خطوط تقسيم حدودية، هي دليل على إهتمام جمهور وهواة جمع الأعمال الفنية ومسؤولي معارض وفنانين، وجدوا في غضب الفنان السوري الشاب وخربشات ذكرياته الممزوجة بمخيلته، علامة فنية فارقة في تاريخ الفن الحديث، جديرة بالإقتناء كشواهد على حربٍ قد لا ينصفها التاريخ المكتوب وحده.
أربعة وثلاثون عاماً عاشها عبد اللطيف الجيمو، لم يكن يعلم أنه سيضطر يوماً إلى تخيل ما قد يراه الطيار أثناء قصفه المدن السورية.
في المعرض الأخير "مختارات من الذاكرة" لأسعد عرابي، جسد عرابي سماء المدن السورية المتلبدة التي تعطلها الغربان في إحدى لوحاته، وفي مقارنةٍ بين رؤية جيمو لذلك المشهد وعرابي، يتضح للمشاهد الغضب غير المحدود في ضربات جيمو، والتجريد الخام المتفلت من كل قيد. في مسقط جيمو (عنوان معرضه الحالي) فوضى، واهتزاز متكرر من شدة سرعة حركة الطائرات الحربية، وعدم تمكن عين الفنان من تثبيت الرؤية فوق كل بلدة. في مسقط جيمو صوت إسمنتي ثقيل، حاضر ومتشقق، هياكل براميل وأطيافها، ضخامة الألم في حرية نثر الأكريليك والماء على أسطح القماش.
لا تلمع مواد الفنان الشاب فهي ما عادت تحمل دمعاً ولا تبحث عن التعاطف؛ هي اليوم وفي انتشارها في ارجاء المكتب تصرخ وتوثق صوتها على هيئة ألوان.
مسقط جيمو صورة لأثر ما بعد الحادثة، تماماً كمفعول إضراب ما بعد الصدمة، فيه الكثير من التشتت والبحث عن الذاكرة، والهروب منها في الوقت نفسه. في إضطراب ما بعد الصدمة إرتجاج وضياع وحنق منقطع الوصل بأسبابه.
تشبه ترجمة رؤية الفنان السوري لتلك المساقط، لحظة الخروج من تحت الأنقاض، والنفس الأول المحمل بالغبار والرماد والركام الذي يأخذه الناجي بحدسه قبل وعيه بلحظات.
ومع كل تلك الطيات التي لا تخجل ولا تختبئ خلف الألوان، تظهر طبقة طفولية لا يستهان بها، تتجسد بفرح الفنان الواضح واستمتاعه بنثر الألوان على الأسطح الكبيرة فتعبير الفنان بطوافه حول لوحته أثناء تنفيذها أصبح جزءًا من العمل ذاته.
في الحديث مع نزيه ياسين، تتضح رؤية الأخير واندفاعه في دعم الفنون و مساهمته في "إزالة الأسود" على حد تعبيره. حديث ياسين عن فن جيمو ومعرضه الأول في لبنان، وعن تمكن أخوات جيمو من رؤية اعماله في بيروت اليوم، بعد مرور سبع سنوات من عدم رؤيتهم لأخيهم، يرفع من قوة القصة وراء أعمال الفنان. شغف ياسين في حمل الصوت والصورة بشفافية، يبرر ربما إهتمام الصحافة وأقلامها بتغطية المعرض الذي إمتد ثلاثة أيام فقط في مكتب في شارع مونو.
لم ولن يكون الفنان عبد اللطيف الجيمو الأول ولا الأخير في رسم وتجسيد الصور السورية القاسية التي تناقلتها وسائل الاعلام والتواصل ببرود في السنوات الماضية، ولعله في ابتعاده الجغرافي والرؤيوي عن مكان الحدث، وارتفاعه في طائرة تحلق فوق المساقط، قد يكون نجح في تمويه توقه للشفاء مما حفظته عينه المجردة، فالتفاصيل الصغيرة والحساسة غير مرئية مع ارتفاع الطائرات المحلقة في السماوات.
قصة وصول تلك اللوحات الجدارية إلى بيروت تشكل عربة في قطار صدمات، دخانها ألوان ولوحات، تدعو مراقبها إلى متابعة نضوج تلك الأعمال بعد الشفاء.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها