تنقل البلغارية إيرينا بابنشيڤا في روايتها "ريشة طائر البجع" مشاهد من حياة المجتمع البلغاري المعاصر في العاصمة صوفيا، وفي بعض المدن الصغيرة، ترصد جانباً من المغيرات التي يعرض لها هذا المجتمع بفعل ظروف الحياة والمشقات التي يعانيها الناس في رحلة كفاحهم اليومية التي تستلزم منهم تأهباً دائماً ويقظة وحرصاً على المحافظة على قوتهم وتكاتفهم مع أسرهم وأحبائهم.
تشير الروائية في عملها إلى انقلاب المرء على نفسه حين صدمته بالآخر، وكيف أنه يبدأ باختيار طريق مختلف، باحثاً عن سعادته المنشودة، وهارباً إلى غده المأمول، متخففاً من أعباء الواقع، ومما قد يثقل كاهله من مشاعر الذنب وتأنيب الضمير، ومتجاوزاً إياها مختلقاً لنفسه المبررات التي يقنع نفسه بها عساه يستدل إلى درب للمصالحة مع ذاته ومستقبله.
صدمات الواقع
تختار بابنشيڤا بطل روايتها مارتن، وهو مراهق يكاد يتلمس خطواته الأولى في اكتشاف الحياة الحقيقية، بعيداً عن براءة الطفولة، وما تتسم به من انشغال عن الظروف المحيطة التي يغرق فيها الأهل، من أجل تأمين حياة مريحة لائقة له، وانعكاس ذلك وتأثيره عليه، بحيث أن ما يفترض بأنه سعي يومي دؤوب من أجل مستقبله يعود بمفعول عكسي عليه، إذ يجد نفسه بعيداً عن والديه المنشغلين عنه بأعمالهم، وهمومهم، ثم تكون الصدمات المتتالية كفيلة بفتح عينيه على حقائق محيطه.
تبقي إيرينا خط السرد بيد الراوي الرئيسي مارتن، وتستعين بأصوات الشخصيات الأخرى المعبرة عن نفسها، والتي تبدو كأنها تدافع عن نفسها في وجه الآخرين الذين قد يؤنبونها أو يلومونها على ما اقترفت بحقهم، أو بحق نفسها، وتكون مرافعة لا تبحث عن إقناع بقدر ما تحدّث نفسها بصوت عال، وبحث عن غفران ومسامحة، لأن الحياة قصيرة وعلى المرء أن يرضخ لمتغيراتها.
يود مارتن لو يصبح كاتباً كخاله، يهتم بالقراءة، ويدون ملاحظاته، يهيئ نفسه لرحلة الكتابة الشاقة، لا يذعن للظروف القاهرة التي يمر بها، يبحث عن سبل للتهدئة، وبرغم سنه الصغيرة، يسعى لأن يكون متفهماً، يلتمس الأعذار للآخرين، لا يسارع بإلقاء اللوم عليهم أو تجريمهم، بل يمنح نفسه فرصة للمراجعة والتفكير.
يعيش مارتن مع والده ووالدته لينا في صوفيا، وهو طالب في المدرسة، تسير حياته بإيقاع هادئ، يتبع تعليمات والديه ويلتزم بما يطلبان منه، وذلك كله يتغير رويداً رويداً مع تغير واقع أسرته، واقتحام مونيكا؛ وهي صديقة والدته لأجواء بيتهم الروتينية التي كانت تتسم بالملل والرتابة.
تقلب مونيكا هدوء منزل مارتن، تفرض إيقاعاً جديداً عليه بشخصيتها المتمردة الغريبة وجمالها اللافت، تضفي تغييراً على ليالي الأسرة الرتيبة، تتحدث عن ذكرياتها مع لينا أثناء المدرسة، وكيف أن لينا كانت شخصية قيادية، وكان يحسب لها ألف حساب بين رفاقها، ولا تتطرق إلى موضوع استحواذها على حبيب لينا السابق حين مغادرة لينا للدراسة في صوفيا، ومن ثم زواجها منه لسنوات، وتصف كيف أن ذلك آذى لينا في الصميم.
تظهر مونيكا كالشبح الذي ينغص على لينا سعادتها المفترضة، فهي التي كانت قد سرقت منها حبيبها السابق، تعود لتجدد ما يمكن توصيفه بالخيانة، إذ إنها أثناء إقامتها في بيت لينا التي آوتها، وذلك بعد أن فقدت عملها، وطلبت المساعدة منها، ترتبط بعلاقة مع زوجها في غفلة منها، كما تقنع ابنها للكذب عليها، وذلك بعدم إخبارها مغادرته لصفه في المدرسة، وذهابه إلى السينما معها. وكان من شأن ذلك أن يثير حنق لينا التي احتدت وطلبت من مونيكا المغادرة.
تكون صدمة مارتن وأمه لينا في الصباح التالي، حين اكتشاف مغادرة والد مارتن برفقة مونيكا، وما شكل ذلك من فجيعة على الأسرة الصغيرة التي كانت تكافح من أجل قوت يومها، ومن أجل المحافظة على تماسكها وسعادتها المأمولة، لكنها انتكبت بالتفتت والخسارة، وذلك بعد انقلاب مونكيا على صديقتها مرة جديدة، واستحواذها مرة ثانية على رجلها، وكأنها لا تستطيع الاختيار وحدها، بل عليها انتظار لينا للاخيتار ومن ثم تبدأ بغواية حبيبها وإبعاده عنها.
احتجاج طيني
مونكيا بدورها تدافع عن نفسها، تحول الاتهام إلى صديقتها لينا التي اعتادت على تحصيل ما تريد وما تحتاج، في حين أنها تكون الأقل شأناً منها، تسألها عن ضرورة مراجعة تصرفاتها وأفعالها، والعثور على مكامن الخلل في علاقاتها وحياتها، وعدم انتظار إلقاء اللوم عليها، واتهامها بسرقة حبيبها وزوجها، لأنها تكون قد فقدت كلاً منهما بانشغالها بذاتها، وشعورها بأنها المركز وعلى الآخرين تلبية رغباتها.
تنقل الروائية شخصياتها من فضاء المدينة إلى فضاء بلدة شاطئية صغيرة، وذلك من خلال الجدة التي تطلب من ابنتها لينا وحفيدها مارتن الذهاب إليها في العطلة، وهناك تقوم بدورها في إخراج ابنتها من حالتها المزرية، تضع لها ولمارتن برنامجاً يومياً يتضمن السياحة والرياضة والسباحة والاستحمام بالطين، واكتشاف الشاطئ والبلدة معها، وعدم البقاء في سجن الحزن واليأس.
يتعرف مارتن إلى سيلفيا، يرتاح برفقتها، يسعد بحديثها، يكشف لها عما يجول في خاطره، يتذكر أليكس وحبه لها، وحالة الضياع التي يعيشها لفترة بين فتاتين، لكنه يستدل إلى سبيل للمصالحة، حين يبقي الأبواب مشرعة على مختلف الاحتمالات. يشعر أنه شخص مختلف مع كل فتاة، كما يراقب تغير حالة أمه المزاجية، وتحسنها من يوم لآخر بفضل الجدة الحريصة عليها.
تلفت الروائية إلى انشغال الشخصيات بواقعها، وغرقها في بحر السعي للبحث عن سعادتها المفترضة كل مرة، وكيف أن ذلك يساهم في تخفيف وطأة الأحزان والمصائب عليها، ويدفعها لعيش يومها والتخطيط لغدها بعيداً عن زنازين الماضي وذكريات البؤس والأسى..
تشير بابنشيڤا إلى النضج الذي يبلغه مارتن في فترة قصيرة، وكيف أن الكتابة تحمله مسؤولية كبيرة، وتضعه في صدارة الاهتمام والقيادة والقدرة على التأثير والتغيير، وذلك بعد أن يكتب مقالة يدافع فيها عن حق الأهالي في الشاطئ الطيني، وضرورة إيقاف السطو عليه وخصخصته من قبل البلدية، وفرض رسوم على مَن يود الاستشفاء بالطين أو الاستمتاع به أو بالسباحة..
يكتب عن وجوب أن يظل المكان متاحاً للجميع، وألا يغدو إقطاعة لبعضهم، يدافع عن حقوق الناس في بلدهم، ويرفض الانسياق وراء فروض السلطة وقيودها، وتأخذ كتابته صدى لافتاً، يغدو شخصاً مشهوراً بين طلاب المدرسة، كما أنه يساهم في ما تصفه الكاتبة بالاحتجاج الطيني الذي يكون ثورة وتمرداً على إملاءات البلدية ومسعاها لفرض رسوم على الناس ومنعهم من استخدام ثروات بلدهم الموهوبة لهم وحرمانهم منها.
تؤكد الروائية على القوة التي يمتلكها جيل الشباب حين يتسلح بالوعي، ويعرف قيمة نفسه وبلده، ويدافع عن حقوقه في وجه من يسلبه إياها، وكيف أنه يمكن تحصيل تلك الحقوق بالوسائل السلمية، بعيداً عن العنف، وواقع أن التسلح بالعلم والكلمة والكتابة والإحساس بالمسؤولية من عوامل التغيير نحو بناء مستقبل أفضل.
"ريشة طائر البجع" رواية نضال الإنسان ضدّ أناه، ضدّ ما يغرقه من مآسٍ، رواية البحث عن درب للخلاص في معمعة الأحداث المحبطة القاسية، والتشبّث بالقوّة والأامل والإرادة للتحريض على الثورة والتغيير المنشود.
(*) إيرينا بابنشيڤا: وُلدت في مدينة بورغاس البلغارية. حصلت على درجة الماجستير في الدراسات السلافية، وتخصّصت في اللغة التشيكية والأدب. أكملت تعليمها في جامعة فريجي في بروكسل ببلجيكا، وحصلت على درجة الماجستير في التكامل الأوروبي والتنمية، وتخصّصت بالسياسة الأوروبية والاندماج الاجتماعي. من كتبها: «أنا أتلعثم»، ورواية «شبه عاطفي» ، و"أنابيل"، «شبه عاطفي». اختيرت رواية أنابيل من بين الترشيحات النهائية في يناير/كانون الثاني في مسابقة الرواية البلغارية المعاصرة لمؤسّسة «إليزابيث كوستوڤا» و«أوبن ليتير بوكس» في جامعة روتشستر.
(**) منشورات المتوسط، ميلانو، ترجمة أماني لازار 2018
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها