هذه القصة الغنية على المستوى الإنساني، والمهمة على المستوى التاريخي، رُويت في العديد من المقالات، وفي كتاب بوفييه كما ذكرنا، واليوم تشهد الصالات في بيروت فيلماً سينمائياً بعنوان "حرب خاصة" للمخرج الأميركي ماتيو هاينمان، يروي سيرة حياة الصحافية الأميركية في جريدة "صنداي تايمز"، ماري كولفن، وهي واحدة من أبرز المراسلات الحربيات التي تعترف الصحافة الأميركية والإنكليزية بجهودها في تغطية نزاعات مسلحة في مناطق عديدة من العالم.
سريلانكا، العراق، أفغانستان
يبدأ الفيلم في العام 2001، يوم كانت ماري كولفن من فريق "صنداي تايمز"، وقررت الذهاب إلى سريلانكا، حيث الصراع الدامي الدائر هناك بين القوات الحكومية ومتمردي التاميل المطالبين بالإستقلال أو المشاركة في السلطة. كانت غايتها ان تعكس حال المدنيين والعائلات المحاصرة في المناطق التي يسيطر عليها متمردو التاميل، ومستوى العوز والأمراض التي يعانونها. قابلت كولفن زعيم المتمردين، وشهدت على معركة بين الجهتين المتصارعتين، تعرضت خلالها لقذيفة، فقدت بسببها عينها اليسرى، واضطرت أن تغطيها لكامل مستقبل حياتها.
في الفيلم، نرى كيف نظمت القوات العسكرية الأميركية، عمل الصحافيين الدوليين لتغطية الحرب الأميركية على العراق في العام 2003. تنتقد كولفن علاقة الصحافة بالقوات العسكرية الأميركية، وتحاول برفقة المصور بول كونروي أن تسبق تقدم القوات الأميركية لتصل إلى الفلوجة قبلهم. هناك، بحسب معلومات كولفن، ثمة مقبرة جماعية لجثث ضحايا نظام صدام حسين.
في واحد من أجمل مشاهد الفيلم، تصل كولفن، مع جرافة استأجرتها، إلى المكان، وتبدأ بالحفر. ورويداً رويداً، يحضر مواطنون عراقيون من أهالي الضحايا، الواحد تلو الآخر. إنها عائلات المفقودين ومجهولي المصير من البلدات القريبة، والذين يعتقدون بوجود المقبرة الجماعية لكن أحداً في السابق لم يقترب للكشف عنها. وبينما تطلق النساء عويل المناحات، ترفع الجرافة جثةً دليلاً قاطعاً على وجود مقبرة في المكان، هكذا تكشف ماري كولفن لعائلات المفقودين، جثث ذويهم. قصة مذهلة عن فاعلية الصحافة، واحدة من قصص حياة ماري كولفن.
كابوس متكرر
بين رحلة حرب وأخرى، يعود بنا الفيلم إلى الولايات المتحدة، حيث نتعرف هناك على حياة ماري كولفن الشخصية، وأثر رحلات وتجارب الحرب في حالها النفسي والوجداني.
تفقد حبيبها، بسبب التغير النفسي والجسدي الذي تتعرض له، وتشعر بأنها أكثر غربة عمن حولها من أصدقاء، تغرق في الكحول، ذلك أن رؤى من الحرب وأصوات تعاودها بين الحين والآخر حين تكون وحدها. وهناك كابوس يتكرر في أحلامها، تلك الطفلة المقتولة التي رأتها في أفغانستان، ترقد جريحة، مفارقة للحياة على سرير ماري كولفن.
هنا يتوقف الفيلم عند معالجة الحال التي آلت إليها كولفن. بحساسية، يطرح السؤال: هل هي شخصية هستيرية تعاني اضطرابات نفسية؟ أم أنها شخصية ذات حساسية لتلك القضايا التي تحاول الكتابة عنها؟ هذا سؤال معقّد يخوض فيه السيناريو، وهو من كتابة ماري برينير، ومقتبس من مقال "الحرب الخاصة لماري كولفين" بقلم: آراش آميل.
ليبيا وسلاح الاغتصاب
توجهت ماري كولفن إلى ليبيا، مطلع الربيع العربي. في اللقاء الذي يظهره الفيلم بينها وبين الرئيس الليبي آنذاك معمر القذافي، نتبيّن معرفة سابقة. تقول له كولفن بأن ليبيا على شفا الحرب الأهلية، إن استمر أسلوب التعامل نفسه مع الثوار. القذافي لا يأبه، يقول إنه قائد الثورة الدائم، ويتهم تنظيم القاعدة بالمسؤولية عن العنف الحاصل في ليبيا، ويقول إنه باقٍ بينما سيذهب رؤساء آخرون إلى تقاعدهم. حينما تبرهن له كولفن أنه خذل الليبيين الذين دافعوا عنه كل تلك السنوات، وأنه لا دخل للقاعدة بما يجري، يهددها القذافي بطريقة مبطنة بالإعتداء الجنسي.
من ليبيا، تكتب كولفن مقالاً يثبت أن قوات القذافي تلقت أوامر بإغتصاب نساء عائلات الثوار، وتكتب بأن القذافي يتعامل مع الثوار الليبيين بعنف، ولا يرى فيهم إلا "الجرذان" بحسب تعبيره. تتابع كولفن الأحداث الليبية حتى العثور على جثة القذافي في أحد مجارير الصرف الصحي، ومن ثم توثق مع المصور بول كونروي جثته في مستشفى.
وصية إلى صحافيي الحروب
مشاهد الفيلم عن العلاقة بين ماري كولفن و"صنداي تايمز" البريطانية، نتعرف من خلالها على تجاذبات وسائل الإعلام. تنتقد كولفن بعض الجالسين في مكاتبهم، والذين "يدّعون" علاقتهم بمهنة الصحافة. تصرّ على أن الصحافة هي أرض الحدث، لذلك تضغط على رؤسائها لإرسالها أن في مهمات متتالية إلى مواقع الحروب. يقول لها رئيس التحرير: "أنت ضمير أولئك الذين لا يتجرأون على الذهاب إلى الحروب ليروا ما يحدث هناك".
الوصية المهنية من ماري كولفن، لصحافيي الحروب، تظهر في نقاشات خاضتها مع مراسلين آخرين غطوا الحرب الأميركية على العراق، فتقول لأحدى الصحافيات: "نحن لسنا هنا لنغطي الحرب من أحد طرفي الصراع. المتضرر الأساسي هم المدنيون، علينا أن نبحث عن قصصهم لنكتب عنها". هذه الرؤية لقصص المدنيين وأهميتها في النزاعات المسلحة، هي التي تقود كولفن إلى بابا عمر العام 2012.
"لا أهداف عسكرية، بل المناطق السكنية هي التي تتعرض للقصف". هذه هي الرواية التي حاولت ماري كولفن أن تظهرها في الإعلام الإنكليزي آنذاك. في تلك الفترة، كان صراع الروايات هذا مركزياً، ولعله ما زال سائداً في النزاع السوري حتى اليوم. لقد قدمت كولفن حينها روايتها، عن 25 ألف مدني تحت الحصار والجوع، والأقسى تحت القصف المستمر. الحياة في ظل تلك الظروف، هو ما أرادت كولفن توثيقه بأسلوبها الصحافي، ومعها المصور بول كونروي، ودفعت حياتها ثمناً لذلك.
استهداف الصحافيين
يقدر المركز السوري للحريات الصحافية، سقوط 400 ضحية من الصحافيين والمصورين والناشطين الإعلاميين، خلال الأحداث السورية الجارية منذ العام 2011. للمرة الأولى، يتم التعامل مع الصحافيين كأهداف عسكرية، والجهات المتنازعة كلها ارتكبت جرائم وانتهاكات في حق الصحافيين. ومنذ العام 2011، تلقب سوريا بـ"مقبرة الصحافيين"، في تقارير المنظمات الدولية العاملة في حرية الصحافة، وفي مجالات حقوق الإنسان.
ينتهي الفيلم بفيديو أصلي يصوّر الشخصية الحقيقة لماري كولفن، وهي تقول في جملة أخيرة: "ذهبتُ إلى الحروب من دون خوف، اعتقد أن الخوف يأتي بعد خوض التجربة"، وتضحك.
جثة مُحاصَرة
وتبقى الحكاية التاريخية المؤثرة، والتي لا يعرضها الفيلم، وهي مصير جثة كولفن، إذ بقيت بين أيدي الأطباء المحاصَرين في بابا عمر التي قطعت عنها الكهرباء، حتى ما عاد في الإمكان إبقاء الجثة في البراد. ولما اقتربت قوات النظام السوري، لإطباق الحصار على المنطقة، اضطر الأطباء لدفن جثة ماري في حديقة في بابا عمر، وبحسب شرائع الدفن الإسلامية. وعن ذلك، احد من أجمل فيديوهات الثورة السورية. بعد أيام، دخل "الهلال الأحمر" إلى المنطقة، وتولى إيصال جثما ماري كولفن إلى الولايات المتحدة، ليتم دفنها هناك. أما القضية التي ماتت من أجلها ماري، فلم تحظَ باهتمام فعلي من قبل المجتمع الدولي حتى اليوم.
(*) يشارك في بطولة الفيلم، ممثلون بارزون مثل جيمي دورنان، ستانلي توتشي، جيرمي لارويت، فادي السيد، توم هولاندر، كوري جونسو، هيلتون مكري، ورعد الراوي.
ويعرض في سينما "أسواق بيروت".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها