(توم هانكس مؤدّياً دور بن برادلي، مدير تحرير "واشنطن بوست"، في فيلم "ذا بوست" لستيفن سبيلبرغ). كنّا، جمهور الصالة البيروتية، نتبادل نظرات غير معتادة بين رواد السينما. كأننا نقول لبعضنا البعض: عرفتك، أنت مثلي، تشاكس الآن "حزب الله" وخِطابَه وهتّافيه بما أوتيت من فردية.. أنت مثلي، لا تريد لهذا الخطاب أن يهيمن، أقلّه ليس في صالة السينما أو خياراتك في ما تشاهد أو تسمع أو تقرأ، ويكفي استئثار "الإلهي" بحصة مخيفة من قرار الدولة ولعبة السياسة والاقتصاد والأمن والقرار السيادي.. أنت مثلي، رغم أني لست متأكداً من هويتك السياسية.. ربما تربط "جماعتك"، بحسن نصر الله ومَن لفّ لفّه، علاقةُ تحالف أو نفعية أو تكاذب ودّي.. لكنك، هنا على الأقل، مِثلي، أتيتَ من بيتك، ودفعت ثمن البطاقة، وتنتظر بدء عرض "ذا بوست" للمخرج الذي
استعصى على حسن نصر الله لفظ اسمه.كان بيننا، في صالة السينما، عدد من الصحافيين، إذ لا يمكنك أن تخطئ التعليقات، ونقاشات المجموعات الصغيرة المتحلقة حول صحن السجائر خارج الصالة بعد انتهاء الفيلم. "وكالات!"، قال جاري لرفيقته، وكان المشهد على الشاشة لحظتها لمحرِّرة تجر لفافة ورقية طويلة، تهرع بها إلى مدير التحرير. لفافة الأخبار الآتية طازجة عبر وكالات الأنباء. قد أجزُم بأن جاري هذا يكبرني بعشر سنوات على الأقل، وبديهي أنه عاصَر زمن الأخبار التي تلفظها ماكينة مثبتة في زاوية غرفة التحرير، وتوزَّع ورقياً على المحررين. صحافيو جِيلي، أي الجيل الذي غطس في المهنة مع اختتام الألفية الثانية، لم يفُتهم مشهد الوكالات هذا في مقرات الصحف اللبنانية. لكن، سرعان ما حلّت أجهزة الكومبيوتر على بعض المكاتب، ثم على المكاتب كلها، كبرَكة استعجلناها من المستقبل، ولو متأخرين سنوات عن زملائنا في الصحف الأجنبية. وأنا مثله، أطلقت ضحكة صغيرة لمنظر "الوكالات"، ولمشهد "الصفّ" – أي صفّ الأحرف يدوياً في المطبعة.
صحافيو جِيلي بدأوا يتلمسون معنى العمل الصحافي، في لبنان التسعينات، وهو يركّب زمن سِلمِه بعجالة الأخرق، السعيد، المتلهف للحياة والفاسد والساذج والمجرم السابق والسياسي القذر والسياسي الطموح، ورجل الأعمال والمثقف الحرّ والمثقف المأجور والشاب الطوباوي. ضربنا رؤوسنا بسقوف كثيرة، وكانت مختلفة نوعاً ما عن حدود المسموح والممنوع بالنسبة إلى جيلَين سبقانا في المعترك إبان الحرب الأهلية وخلالها. هُم كان عملهم مؤطراً بالقضايا وبالكتف التي تستقر عليها البارودة – يُمنى كانت أو يُسرى. ومرات أقل، حُكموا بتمويل مؤسساتهم وبالخوف. فالمال كان كثيراً في أيامهم، والحرب غنية. أما القتل، وإن كان سهلاً، إلا أنهم اعتادوه جزءاً من يومياتهم. فإن لم تُفخخ سيارة صحافي أو صاحب جريدة، فاحتمال موته، كما مواطنيه، بانفجار يصادف مروره في شارع ما، ليس مستبعداً.
أما جيلنا، فبُنيت سقوفه بأيدي العسكر "الموحَّد" حديثاً بعد شرذمة الحرب، تحت راية الوصاية السورية. إضافة إلى رجال "الأمن اللبناني-السوري المشترك"، ومعهم مصادر التمويل والإعلانات من أهل السياسة والبزنس. ثم توالت الاغتيالات، وغزوة السابع من أيار، والتاريخ القريب المعروف.
بعضنا "قاوم". جادل، مع قلة من المخضرمين، من أجل نشر معلومة أو وجهة نظر لا توافق عليها "الإدارة"، وقلّما نجح. ناقش فكرة "مضادة" في اجتماع التحرير، أو احتج على "مانشيت" فئوي. حاول تمرير فكرة نقدية، بين سطور تحقيق صحافي، أو على لسان شخصية "مغايرة" تُجرى معها مقابلة من ضمن مقابلات كثيرة و"تزمط" أفكارها من باب التنويع المقنن. بل إن بعضنا استقال، وانتقل إلى مؤسسة أخرى، أو حتى إلى العمل الحر. ومع ذلك، يجب الاعتراف: لم يستطع جيلنا، وإلى حد كبير الأجيال الصاعدة بعدنا، التأثير فعلياً في ثقافة المهنة في لبنان، وطبعاً ليس في العالم العربي الذي انتشر في إعلامه زملاء كثر، أملاً في تحسين مداخيلهم دون شروط عملهم. في النهاية، تقبّلنا تلك "الثقافة" أمراً واقعاً، وعملنا بين سِنان شفراتها بالتي هي أحسن، خصوصاً مَن كان مِنّا شغوفاً بمهنته ولا يجد نفسه في أي عمل آخر.
قد يستعيد واحدنا كل هذه الأفكار فيما يشاهد "ذا بوست". الفيلم تحفة سينمائية، وهذا يحتاج مقالاً منفصلاً. لكن هذه القصيدة التوثيقية البصرية، عن معنى الحريات وجوهر العمل الصحافي، تصيب مكاناً في القلب. نعم، الفيلم موجّه إلى الداخل الأميركي بالدرجة الأولى. بالتحديد، هذه الأميركا: التي أتت بدونالد ترامب رئيساً. التي تواجه صحافتُها تحدّي استعادة ثقة الجمهور بعدما فشلت في استشراف نجاح ترامب في الانتخابات. أميركا التي يستهدف رئيسُها الإعلام بكل الوسائل المتاحة له، لتقويضها والتضييق عليها، وخفض نبرة أسئلتها وإقصائها من البيت الأبيض ودوائر القرار. أميركا أيضاً التي تتسلى صحافتها المعارضة – كل يوم – برئيس متغوّل وتافه في آن واحد. التي تخوض نخبُها معركة لكشف حقيقة ما جرى في الانتخابات الرئاسية، وكشف فضائح العام الأول لرئاسة ترامب، وإلى جانبها معارك لا تنتهي من أجل الحريات ومكافحة خطاب التمييز والعنصرية والكراهية والشوفينية والذكورية، وهو الذي صار خطاب السلطة للمرة الأولى – وبالفجاجة هذه – في تاريخ البلاد.
من أجل هذه الأميركا، صنع سبيلبرغ "ذا بوست". لكنه تحدّث إليّ أنا أيضاً، صحافية لبنانية، في صالة سينما، مع زملاء عرفتهم من تعليقاتهم. صحافيون وصحافيات، أكبر مني سناً وأصغر، ومعنا جمهور، نسخر من
التهديد والوعيد والتخوين وتهم التطبيع والعمالة، ولو فقط بالفرجة.
الفيلم ليس رومانسياً بالكامل. أولاً، القصة حقيقية. الوثائق، النشر، المحكمة، الخطر، المجازفة، التوتر، القرار الصعب، الخوف من خسارة كل شيء، التردد.. كله حقيقي. ثانياً، نرى مدير التحرير، المتحمس لفضح الرئيس نيكسون، يراجع نقدياً علاقته الوثيقة، كصحافي، بالرئيس جون كينيدي، وكينيدي أيضاً تشمله "وثائق البنتاغون" المسربة. والصحافي ليس ملاكاً، بل أرسل "جاسوساً" إلى "نيويورك تايمز" لمعرفة ماهية خبطتها المقبلة. وثالثاً، نرى رئيسة التحرير، الجديدة على المهنة والعمل والمسؤولية العامة، تتنازعها مشاعر الحفاظ على ميراث العائلة بالمعنى المالي والمعنوي، في مقابل مشاعر المرأة التي يبدو أن أحداً لا يأخذها على محمل الجدّ، وأوّلهم والدها الذي سلّم الجريدة لزوجها قبل أن تؤول إليها إليها بعد وفاة الأخير. كاثرين غراهام (ميريل ستريب)، في البداية، لم يشغلها الشأن العام كأولوية، ولا حرية التعبير، بل الحالة الشخصية المتمثلة في "واشنطن بوست"، وأثّر فيها ضغط المستثمرين المحتملين، قبل أن تنمو عليها القضية بالتدريج.
أحسب أن هذه اللا-الرومانسية تجعل هذا الفيلم لنا، لجِيلي الذي ظنّ أن البديل من الصحافة المثالية، هو هذا الواقع السائد الذي يجب التعامل معه كما هو، لأن "الدنيا هيك"، وفي كل مكان.
لكنهم هناك، يملكون "التعديل الأول" في الدستور الأميركي، والأهم أنهم يحترمونه، برضاهم أو مرغمين. وهناك، حين تُكشف تجاوزات السياسيين، فهي فضائح، وليست روتيناً إخبارياً. وفضيحة واحدة قد تُسقط رئيساً، ولو امتطى أعلى خيوله، وضغط على القضاء، ومنع الصحافيين عن البيت الأبيض، وسعى إلى إقفال صحف. وهناك، قد تؤتي التظاهرات الاحتجاجية ثماراً، وتتضامن الصحف في أزماتها. وهناك، ينطق قاضٍ بالحُكم هكذا: "في التعديل الأول، أعطى الآباء المؤسسون، الصحافة الحرة، الحماية التي يجب أن تحظى بها لتؤدي دورها الحيوي في ديموقراطيتنا، لتخدم المحكومين، وليس الحكّام. وألغيت سلطة الحكومة كرقيب على الصحافة، لتبقى الصحافة حرّة دوماً في ممارسة الرقابة على الحكومة". وهناك، كما في فيلم ثانٍ مدهش هو "سبوتلايت"،
للتحقيق الصحافي قيمته، الاستقصاء الاحترافي، وأحياناً العمل الصحافي الجماعي، ولشهور، بلا كلل، على موضوع واحد.
تقتضي الأمانة القول بأن المشكلة، في بلادنا، لا تنحصر في ثقافة المهنة و"أربابها"، بل يطاولها أيضاً الشحّ المالي، وصعوبة فتح المؤسسات الصحافية للاكتتاب العام، وضيق السوق الإعلانية المتوافرة للمستقلين، ومحدودية التوزيع/القراءات في زمن ألعاب السوشال ميديا والشاشات. ومع ذلك، فالأرجح أن يخرج الصحافيون من الصالات اللبنانية التي تعرض "ذا بوست"، وقلوبهم مشحونة بمشاعر متناقضة: الخجل، الزهو، اليأس، المتعة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها