يبتعث فال ولد الدين شخصية الجاحظ - أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني البصري (159 هـ - 255 هـ)، الذي يعدّ أحد أبرز الأدباء العرب - يرتحل معه إلى زمنه، كأنّه يرثي ما كان وما يكون من خلاله، ولاسيمّا أنّه كان من نوابغ عصره، ومن أشدّ الغيورين على العربيّة، وهاجم الشعوبية والشعوبيين، وحارب مزاعمهم بقلمه وفكره، وقاسى ما قاساه من في زمنه، ووثق كثيراً من المفارقات التي كان من شأنها تشويه اللغة والفكر والحياة في ذلك الزمن، وفي ما تلاه من أزمنة.
يختار الروائي توصيف الجاحظ بالحدقيّ في إشارة إلى بروز عينيه الشهير، ويكون الحدقي مرادفاً في المعنى للجاحظ. وتراه ينتقد من خلال إحيائه لشخصية الجاحظ وحكاياته الناقدة لعصره وما شهده، الراهن العربيّ، يرثي التاريخ، ويحذّر من رثاء المستقبل أيضاً، وذلك على اعتبار أنّ الجاحظ كان أبرز مستشرفي المستقبل، من أشدّ الغيورين على العربيّة، مناهض الشعوبية ومحارب دعواتهم التفريقيّة، عاشق العلم، المساهم في تعرية نفاق المتاجرين بالأكاذيب والمحاولين السيطرة على الناس بالتلاعب بعقولهم وتحوير الأفكار والحقائق.
يبحر ولد الدين – وهو إعلامي في قناة الجزيرة، كان قد كتب رواية "في ضيافة كتائب القذافي .. قصة احتجاز فريق الجزيرة في ليبيا" - في تصوير علاقات الجاحظ الأدبية والتاريخية، وكيف تتلمذ على يدي الفراهيدي، ويلتقط علاقاته مع علماء وأدباء وشعراء عصره وشهاداته عنهم، ومنهم مثلاً: أحمد بن حنبل، إبراهيم النظام، أبو نواس، وغيرهم كثيرون ممن ساهموا برسم لوحة ذاك العصر وإثرائها بعلمهم وأدبهم.
ينتقل بالزمن بين الدوحة الوقت الراهن إلى البصرة في سنوات 168 – 170 هجرية، ويتدرج في التنقلات الزمنية بين الحاضر والماضي، كأن كل محطة من محطات الراهن العربي انعكاس لمحطات تاريخية سابقة، وبخاصة في زمن الجاحظ الذي كان شاهد عصره، ومؤرّخه بأعماله التي أثرت المكتبة العربيّة، وحرصه على العربيّة لغة وحضارة وتاريخاً، ورثائه المتجدّد لواقعها حين كان يشهد الاضطرابات والمعارك الدمويّة بين الإخوة الأعداء، والاستعانة بالفرس والترك وغيرهم من الأجانب لمحاربة الأخ والتنكيل به.
يرسم الروائي واقعاً كانت تسوده مستنقعات الكره والتباغض، تغرقه بحيرات الدماء المتناثرة على أرض الخلافة، تكثر في محاججات جوفاء تبعد الناس عن جوهر الدين والحياة وتوقعهم في فخاخ الثرثرة واليأس، وتحجبهم عما يجب أن يلتزموا به أو يستعينوا به في حياتهم ومستقبلهم، ويكون بطله الجاحظ مسباره لكشف المخبوء ومكاشفة الذات والآخر، وإن كان عبر التعرية أحياناً.
الجاحظ بشكله اللافت، وفكره العميق، يعكس صوراً قد تكون مثار حيرة للبعض، فالمدقّق في الشكل قبل الإيغال في الأعماق قد ينقاد يشعور الاشمئزاز من القبح البادي، لكن المتعمّق في عالمه الفكريّ والأدبيّ الفريد سيكتشف الدرر التي خلّفها وراءه، وكيف أنّه شكّل منعطفاً في تاريخ الأدب العربيّ بمؤلّفاته ولغته وحضوره وإثارته كثير من قضايا عصره التي ظلّت متجدّدة عبر الأزمنة.
يستهلّ الروائيّ بالإشارة والترميز إلى صراع الكلمة الحرّة والسلطة المتجبّرة. إذ يصل بطله الجاحظ إلى البصرة وهو في التاسعة من عمره، يشهد جلد الخليفة المهدي للشاعر بشار بن برد الذي اتّهم بالزندقة، في حين أن الحقيقة أنّه كان يعاقب جرّاء هجائه له، وتجرّئه عليه، وكيف أنّ أبياته الشعريّة هدّدت عرش خليفة كان يخشى من جرأة شاعر أعمى.
محمد القروي يصل إلى قناة "العروبة" ليعمل فيها مدققاً لغوياً، يصدم بداية بالتعدّيات التي تتمّ بحقّ اللغة العربيّة في حضن قناة العروبة التي يفترض بها أن تكون تستمرّ بدورها المنوط بها من جانب الحرص على اللغة العربية وتعزيزها وتمكينها لتبقى الرابط الذي يجمع شتات العرب في ظلّ اللهجات التي تهدّدها، وفي ظلّ الدعوات العنصرية إلى إقصاء اللغة العربية الفصيحة وإحلال لهجات دارجة محلّها رويداً رويداً في بعض الأماكن.
ينهض القروي العاشق للعربية بواجبه في تنقية اللغة الإعلامية في الأخبار التي يدقّقها من الشوائب التي تتخلّلها، يحرص على التدقيق في صياغات الأخبار، كي لا تؤدّي دوراً سلبيّاً في تحوير الحقائق، ولا تساهم بتبديل الوقائع أو الدفع إلى اتّجاهات بعيدة عن مقاصدها المفترضة. يشكّل القرويّ بتدقيقه اللغويّ عبئاً على كثير من العاملين في القناة، ممّن يبدأون بالنظر إليه على أنّه عدوّ، أو منافس، لأنّه يظهر عريهم وجهلهم باللغة، وانسياقهم وراء التضليل الإعلاميّ الذي تكون اللغة أداة مهمّة من أدواته. ولأنّه أصبح مصدر إحراج للعاملين الجاهلين بأصول اللغة وفقهها، تواطؤوا عليه لتحجميه وإبعاده عنهم، وتمّ تكليفه بالإعداد لمشروع عن شخصيّة تاريخيّة، وكان أن اختار الجاحظ الذي كان موضع إعجابه وتقديره الكبيرين.
يتعرّف إلى زميلة تعمل في القناة اسمها حصّة، تتطوّر علاقتهما، يتبدّى كلّ واحد منهما للآخر نقيضاً ومكمّلاً في الوقت نفسه، يكون الانجذاب قويّاً لدرجة كبيرة، بحيث يفسحان المجال لنداء القلب ليعلو على نداء التعقّل والحرص، ولا يكترثان للمعوقات التي تنتظر علاقتهما بداية، ثمّ يجدان أنفسهم في سجن العادات والتقاليد، مفتقدين استقلاليّتهما المفترضة، وواقعين في براثن الإملاءات التي تفرض عليهما من الأهل.
القروي العاشق للعربية والراثي لحالها وأحوال الناطقين بها، يكون متقمّصاً لشخصية الجاحظ نفسه، هاجساً بخهواجسه، ناقلاً قلقه، ومستعرضاً سياقات الأحداث ومآلاتها المفجعة. كما يكون صورته من جهة القلب الذي خذله بصيغة ما، فالقرويّ العاشق لزميلته حصّة يحمل جراح الجاحظ المنكوب بعشقه لتماضر الفراهيدي، ونكبته بعدم الاقتران بها. لكنّ القرويّ يمضي في رحلة إلى خارج أسوار الصحراء، ليتمتّع بفضاء الحرّيّة التي يتخيّلها، والتي من شأنها أن تداوي جراح القلب والروح.
يظهر فال الدين بطله القرويّ بحلّة جاحظ عصره، رهين الصور المقيدة، وشهيد الوفاء للعلم واللغة والأدب، فتراه يمضي به من محطة لأخرى مدفوعاً بعشق اللغة والتفاني في الوفاء لها وخدمتها، ويصوّره ماضياً إلى غده ليكون أكثر تأثيراً في خدمة اللغة، وذلك حين يختم بعرض عمل يأتيه من شركة غوغل نتيجة الخدمات الجليلة التي أسداها لها عن طريق تصحيحه للترجمات.. وكيف أنّ المختصين في الشركة انتهوا إلى أنه عقل لغوي لا بدّ من تعيينه مستشاراً. يفكّر بالحرّيّة التي سيتمتّع بها، يسرح ذهنه إلى بلاد يستطيع السير فيها بحريّته، "صحراء، لا سلطان لأحد عليه فيها".
• الرواية صادرة عن منشورات مسكيلياني في تونس 2018.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها