"حملت شعري على ظهري فأتعبني/ ماذا من الشعر يبقى حين يرتاح؟".. اختصر الشاعر الدمشقيّ نزار قبّاني (1923- 1998) الذي قضى في منفاه الاختياريّ، لندن، في خاتمة قصيدته الدمشقية محنة الشاعر، أشار إلى التزامه في معركة الحرّية، رمز إلى واجبه الذي ينهض به، والموقع الذي يختاره لنفسه في معركته الأدبية والحياتية. وربّما تكون الراحة التي أشار إليها هي المحنة الحقيقيّة، هي الوحل الذي يغرق فيه شاعر لا يليق باسمه، يكون مدح السلطان ديدنه، يوقف "إبداعه" في خدمة السلطات التي توجّهه هذه الوجهة أو تلك.
رغم أن "الكتّاب" و"الكتبة" مشتّقان من الجذر نفسه "كتب"، إلّا أنّهما يفترقان في المعاني، ويكادان يعكسان النقائض معنى في عملية الكتابة، فالمفرد "كاتب" والذي يعرف بأنّه شخص يزاول الكتابة كمهنة على سبيل الاحتراف، ويكون جمعه الكُتّاب: الذين يمارسون الكتابات الأدبيّة. وهناك جمع تكسير آخر له "كتَبَة"، وهؤلاء من يتولّون عملاً كتابيًّا إداريًّا مثل حفظ السّجلات والملفّات.
بين الكُتاب الذين يمارسون أعمالاً كتابية إبداعية، والكتبَة الذين يؤدّون مهمّات وظيفيّة تمّ تكليفهم بها من قبل هيئات عليا، بون شاسع لا يمكن حصره والتقاط التقاطعات بين المعنيين، وإن كانا يستخدمان الأدوات والآليات نفسها في العملية الكتابية، إلّا أنّ الغايات تختلف وتكاد تتضادّ فيما بين الطرفين.
ينطلق الكُتّاب الذين اختاروا الكتابة حياة ومصيراً ومستقبلاً من واجب الالتزام، يؤدّون أدوارهم بجرأة بعيداً عن حسابات السياسة وأوامر الساسة المتبدّلة مع الظروف والتوجّهات والمصالح، يكون المبدأ الإنسانيّ والأخلاقيّ بوصولهم إلى أيّ فعل أو موقف يتّخذونه ويدافعون عنه بقلمهم وفكرهم، يكون الالتزام جسرهم إلى حرّيّتهم وقناعاتهم، يتلقّون أوامرهم من إنسانيّتهم وضمائهم بعيداً عن أيّ حسابات متعلّقة بربح آنيّ أو خسارة أو عداوة أو استعداء متربّص بهم من قبل هذا الطاغية أو ذاك.
في حين ينطلق الكتَبَة من قيود الإلزام، ينقلون ما يملى عليهم من أوامر السلطات التي ترعاهم، أو توظّفهم، يعملون لديها موظّفين يطبّقون قراراتها، ولا يملكون زمام أمرهم أو حرّيّتهم شيئاً، يتبعونها في خياراتها وتوجّهاتها، يبقون نزلاء سجون ما تفرضه عليهم، ولا يتجرّؤون على الخروج عن مسار الأوامر التي يتلقّونها، ولا يطالبون بتشغيل فكرهم وقلمهم إلّا لخدمة السياسات والتوجّهات والأوامر المفروضة عليهم، بينما الضمير الذي يجب أن يتحلّى بها الكاتب الحقيقيّ المناصر لقضايا الحرّيّة والعدالة والإنسانيّة، مسألة مغيّبة، لا تسل عنها في واقع التبعيّة والإذعان..
الشرط الأوّل للكتابة والإبداع هو الحرّيّة، ولا يمكن التمتّع لها في ظلّ الطيغان والاستبداد والإجرام والفساد. هنا تتحوّل الحرّيّة إلى خدعة من خدع المستبدّ لإيهام ضحاياه بهوامش للتحرّك، كي يشهروها أقنعة في وجه مَن يشكّك بهم وبولائهم.. الكاتب الحرّ لا يمكن أن يقبل بأن يكون أداة لتلميع طاغية شرّد الملايين من الشعب الذي يفترض أن يكون شعبه، ودمّر كثيراً من المدن التي يفترض أن يكون مسؤولاً عن أمنها وأمانها وسلامتها.
لن يعدم الكتبة العرب الذرائع لإقناع أنفسهم أنّهم يمارسون عملهم المنوط بهم، ولا يحتاجون إلى أن يكلّفوا أنفسهم عناء تبرير موقعهم الذي يصبّ في خدمة الطاغية الذي استعان بقوى محتلّة لضرب شعبه، سيبكون ضمائرهم، ويطنّشون دوي المدافع وضحايا الحصار والتجويع في البلد، سيتبادلون ابتسامات النفاق، وسيقنعون أنفسه بشعارات جوفاء، تتحدّث بتعميم عن واجب نصرة الشعب السوريّ، ووجوب إحلال السلام في البلاد، ومحاربة التنظيمات الإرهابية.. وغير ذلك من الشعارات التي يكرّرها النظام البائس.
يبدو أنّ الاتّحادات المشاركة في اجتماع دمشق، حسمت أمرها الذي يكون نتاج قرار سياسيّ ناجم عن انطباع بدأ ترويجه إعلاميّاً، وتسويقه، على أنّ المسألة السوريّة "خلصت"، ويتمّ إعداد حلول ترقيعية لها، وسيتمّ تعويم النظام وترقيعه لتقديمه من جديد. وقد كانت معارض الكتب في السنوات الماضية، أي بعد الثورة السوريّة، تتحاشى استضافة سوريا كضيف شرف. كانت هناك حيرة مشوبة بترقّب وانتظار أيّ طرف سينتصر في هذه الحرب الملعونة التي شنّها النظّام الطائفيّ بمعاونة حلفائه من المافيات العالميّة على الشعب السوريّ، ليتمّ تقديمه ثقافيّاً على أنّه سوريا الرسميّة.
حيرة المشرفين على المعارض، وتفضيلهم انتظار "الحسم" لتقرير أيّ طرف من المثقّفين تتمّ دعوتهم، والاحتفاء بهم، جزء من تشوّش أكبر يغلّف سياسات الدول وتصوّراتها وتعاطيها مع واقع سوريا وأهلها. بعض الكتبَة من المتلوّنين الذين تربّوا على انتهازيّات ممجوجة في حضن النظام الفاسد، يلوذون بالرماديّة المقرفة المفضوحة والشعارات الخلّبيّة، ولن يجهدوا كثيراً بالعثور على مكان هنا وهناك لأنّهم مرتزقة الثقافة الدائمون، والمنبطحون المتهافتون على الفتات عند أقدام أزلام هذا الطاغية أو ذاك.
تناقلت صحف تابعة للنظام أنّ اتّحاد الكتاب صالح دمشق، وتكون المصالحة هنا بوّابة لمصالحات تالية مأمولة من قبل النظام الذي لا يني يعيد الأسطوانة البائسة نفسها عن دوره في محور "المقاومة والممانعة" ومحاربة الإرهاب وغير ذلك من التضليلات المفضوحة.
ربّما لم يكن الاجتماع ليتجاوز وصفه الكلاسيكيّ "الاجتماع الدوري للمكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب"، والذي ضمّ وفوداً من 15 دولة عربية إضافة إلى اتّحاد كتاب النظام، لولا أنّه رفع سؤال "التنوير.."، وهو سؤال مستفزّ وقناع مزيّف آخر من أقنعة الاستبداد..
ويكون رفع الشعار وإطلاق السؤال من باب زعم استحقاقه والدفاع عنه ضدّ الظلاميّين؛ ويقصد بهم جميع مَن يعارض النظام، مع تشويه للوقائع وخلط للأوراق في مسعى للتعتيم على قضية الحرّية والتنوير، مقابل ثقافة الطائفية العدوانية التي ينتهجها منذ عقود، وتجلّت بطريقة دمويّة وحشيّة في سنوات الحرب.
لم يغب عن حفل التضليل والتكاذب تصريح مفتي النظام أحمد بدر الدين حسون وزعمه الذي يظلّ مثار تنكيت متجدّد لا يؤخذ على محمل الجدّ: "أن اجتماع العرب في دمشق إشارة إلى زوال الغمة وإلى أن سورية ناهضة لا محالة لتقود العرب نحو درب الخلاص واستعادة الكرامة".
هل سيخطر للاتحادات المشاركة، أو أعضاء منها، السؤال عن مصير العشرات من الكتاب السوريين المهجّرين في الخارج؟ هل سيتجرّأ بعضهم على الهمس لنفسه أو آخرين مشاركين معه في الاجتماعات بأسئلة عن حرّيّة الكتابة والإبداع في ظلّ نظام فتح حدود البلاد للمحتلّين والعصابات الطائفية من هنا وهناك؟ هل سمع هؤلاء بالكاتب محمد رشيد رويلي الذي استشهد تحت التعذيب في معتقلات الأسد؟ هل سمعوا خبر إعدام أجهزة النظام الكاتب ابراهيم خريط وولديه ميدانياً في دير الزور أيضاً؟ هل سمعوا عن فنانين ورسامين وأدباء نحرتهم أجهزة النظام بطرق وحشيّة، أم أنّ هؤلاء يسمعون الأوامر ويطيعونها فقط؟ هل اتّحاد الكتاب أم اتّحادات السمع والطاعة؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها