ورغم مرور أكثر من عقد على خروج السجناء، نشعر بأن ما يروونه لم يمرّ عليه الزمن وكأنّه يحدث أمام عيوننا الآن، لغنى شهاداتهم بتفاصيل صغيرة وملموسة. وما يعزّز هذا الشعور هو خيار إبقاء تلك الشهادات طويلة وبلا تقطيع في المونتاج. أيضاً يخالجنا شعور بأننا لسنا أمام ضحايا، بسبب مقدرتهم على الغوص في قصص الإذلال والتعذيب من دون أن يفقدوا السيطرة على مشاعرهم أو أن ينهاروا أمام الكاميرا.
بالإضافة إلى المقابلات التي تعكس الذاكرة الواعية لتجربة السجن، يبحث الفيلم عن ذاكرة الجسد اللاواعية عبر مشاهد إعادة تمثيل، أو "إحياء"، كما تقول بورغمان، للحياة في زنازين الفردية والجماعية والتي صورت في صفوف مدرسة مهجورة في عاليه. كاميرا طلال خوري، مدير التصوير، تلتقط من قرب وبمهارة حركات الجسد، التي تأخذ بعفوية وضعيات كانت تعرفها تماماً أيام السجن. تتوقف الكاميرا في عمليات إعادة التمثيل على كوريغرافيا تتأرجح بين السكون والضجّة، بين الجمود والحركة، وتنقل تفاعل الجسد مع أشعة الشمس التي تدخل خلسة. ونرى مثلاً السجناء يمسكون أيدي بعضهم البعض، وهم ينحنون الواحد تلو الآخر صامتين، ينتظرون طرقَ السجّان على باب المهجع ليسمح لهم بالخروج إلى الباحة على وقع ضربات تنهال على ظهورهم ورؤوسهم. ويمثل أدوار السجّانين، المساجين أنفسهم.
وتقول بورغمان إن العمل بالفيلم بدأ منذ نهاية العام 2011، وتطلّب وقتاً طويلاً من التفاعل بطرق متعدّدة مع السجناء، مع متابعة من قبل اختصاصية في علم النفس. وتشير إلى أنّ مشاهد إعادة التمثيل، بحواراتها المرتجلة، نابعة من السجناء أنفسهم. إذ يبدأ الفيلم بمشاهد تُظهر السجناء وهم يبنون بأنفسهم المهجع المعدّ لإعادة التمثيل. ونراهم يتبادلون المزاح، ما يدخلنا بسلاسة في "لعبة" الفيلم.
وبعد تصوير المقابلات في آب 2012، شعرت بورغمان، مع سليم، بأنّ السجناء لا يجدون دائماً الكلمات المناسبة لترجمة مشاعرهم، فلجأوا إلى الكوريغرافي والراقص ألكسندر بوليكفتش ليساعدهم في التعبير جسدياً عن أحاسيسهم، ومن ثم تطور العمل لخلق عروض تمثيلية قدمت على خشبات مسارح في ألمانيا في بداية العام 2013. ومن هنا جاءت فكرة إعادة التمثيل.
وتُعزّز المشاهد التمثيلية الشعور بأنّ الفيلم يخرج من إطار الزمن والجغرافيا، ليغوص في عالم الإحساس الخام والآني. من محاكاة للجنّ في عزلة الزنزانة الإنفرادية، أو عملية تدليك ليدّ شلّها التعذيب، إلى وجوه المساجين المترقبة والخائفة في الليل المحمّل بثقل ما ينتظر الجسد من تعذيب محتّم، تعكس المشاهد التمثيلية ما لا يمكن أن تنقله الكلمات، مهما بلغت فظاظتها. فما لا نراه أو نسمعه تخزّنه تلك المشاهد الصامتة في كثير من الأحيان. ولافت مشهد تقاسم بيضة مسلوقة تتابع خلاله الكاميرا من قرب وبتروٍ، تقطيع البيضة بواسطة خيط رفيع إلى ثمانية أجزاء متساوية.
مع تراكم القصص في الفيلم والتي لا تخلو، رغم قسوتها، من ومضات سوريالية، كقصة موسى الذي يلتقط عصفوراً صغيراً دخل صدفةً إلى المهجع، تتلاشى الحدود بين الواقع والذكرى، تصبح الشخصيات أشبه بالأشباح الهائمة بين الحياة والموت. حتّى إنّ أحد السجناء يُخبر كيف أنّه كان أحياناً يستفيق بالقرب من زميل له أصبح جثّةً هامدة فيحاكيه وكأن الحاجز الذي يفرقهما مجرد وهم.
بورغمان وسليم عُرفا من خلال فيلم "المجزرة" (2005) والذي كسر جدار الصمت الرسمي حول الحرب الأهلية، فتجرأ على إجراء مقابلات مع أفراد مليشيات نفذوا مجزرة صبرا وشاتيلا. فيلمهما الجديد "تدمر"، والذي يقاوم من جديد عملية "قلب الصفحة" الممنهجة عن ذاكرة الحرب أو الحروب الماضية والحاضرة، يؤكد أنّ الذاكرة ليست جزءاً من الماضي أو التاريخ، بل تبقى حيّة وآنية طالما أنها باقية في دواخل أصحابها ولا تخرج إلى العلن.
يُذكر أن الفيلم سيعرض ضمن مهرجانات سينمائية لبنانية هذه السنة، بعدما جال في مهرجانات عالمية ونال جوائز عديدة، على أمل أن يُسمح له أن يبصر النور في صالات السينما اللبنانية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها