من المعروف أنّ الموسيقى الأميركية الحديثة (كما الثقافة الأميركية أو أي ثقافة بشكل عام)، تعود جذورها إلى تفاعل شعوب وحضارات مختلفة. فليس من المستغرب أن يُعطي متحف الهجرة في جزيرة أليس (الموطئ الأول لملايين المهاجريين إلى الولايات المتحدة) حيّزاً من الإهتمام بتاريخ الموسيقى الأميركية، وتأثير موجات الهجرة المتتالية في صقلها وتطويرها على مدى العصور. فنرى مثلاً كيف أنّ تراكم وتداخل تراثيات مختلفة من إيقاعات الطبول الأفريقية المتقطّعة إلى الأغاني الشعبية الألمانية، التي تعتمد على الوتريات قد أدّى إلى نشوء أنواع جديدة من الموسيقى.
ولكن الملفت هو الربط، بحسب عدد من الباحثين، بين أشهر أنواع الموسيقى الأميركية، البلوز، ونداء الصلاة عند المسلمين، أي الآذان. نشأت موسيقى البلوز بألحانها وكلماتها الحزينة كامتدادٍ للأغاني التي كان الرقيق الأفارقة يألفونها ويرددونها في حقول القطن والقمح لمساعدتهم على تحمّل ظروف عملهم القاسية في جنوب الولايات المتحدة، وذلك على مدى قرون. فإذاً إرتباط موسيقى البلوز بتاريخ الإستعباد الأميركي متّفق عليه. ولكن ما هو غير معروف كفاية أنّ حوالي 30 في المئة من الأفارقة الذين نُقلوا غصباً عنهم إلى الولايات المتحدة منذ القرن السابع عشر، كسِلع بشرية ضمن تجارة الرقيق، كانوا يعتنقون الديانة الإسلامية، إذ كانوا يأتون من السنغال وغيرها من بلدان أفريقيا الغربية حيث تنتشر الثقافة الإسلامية. ويرى الباحثون أنّ أنغام البلوز وطريقة تأدية أغانيها تشبه طريقة النداء إلى الصلاة عند المسلمين، فإرتعاش الأصوات والتغيرات الدراماتيكية في المقاييس الموسيقية بين الجملة والأخرى، والتجويدات الأنفية هي مميزات موجودة في كلا طريقتي الأداء الصوتي.
ويشرح عالِم الموسيقى الألماني، غيرهارد كوبيك، الذي يعدّ من أهم الباحثين والمتعمّقين في العلاقة بين الحضارات الأفريقية وموسيقى البلوز، في كتابه "أفريقيا والبلوز"، ميّزة التجويدات المتموّجة المتشابهة في البلوز والآذان، والتي تحوّل مقطعاً صوتياً واحداً (مثلاً: آه) إلى أكثر من نوتة موسيقية (آآآهههه). وهو يرى أنّ احتكاك شعوب أفريقيا الغربية الذين أصبح عدد كبير منهم رقيقاً في الولايات المتحدة، بالتراث الغنائي الإسلامي في أفريقيا الشمالية، هو ما جعلهم يحملون تلك الموسيقى إلى القارة الجديدة. الأمر الآخر الملفت بحسب كوبيك، هو أنّ استعمال الآلات الوترية في البلوز، مرتبط أيضاً بالتراث الموسيقي الإسلامي-الإفريقي. فأصحاب الرقيق في أميركا منعوا الأفارقة من استعمال الطبول، لأنهم كانوا يعتقدون أنّها تسمح بخلق روابط بين المستعبدين، وبذلك تهدّد سيطرة الرجل الأبيض على الرقيق. والمعروف أنّ استعمال الطبول مرتبط بالحضارات الأفريقية الوثنية وغير المسلمة. في المقابل، سمح أصحاب الرقيق باستعمال الآلات الوترية البسيطة (والتي تطورت لتنتج آلة البانجو الشهيرة في أميركا) إذ كانت تذكرّهم بآلة الكمان الأوروبية، فيشعرون أنّها أقرب إلى ثقافتهم الغربية. كوبيك يعتقد أنّ تلك الآلات، والأنغام الأولى التي أنتجتها، مرتبطة بالموسيقى الإسلامية وبتراث الرواية الغنائي في أفريقيا الشمالية.
لكن ما يجعل الربط الأنتروبولوجي بين الحضارات الإسلامية والثقافات الأفريقية-الأميركية صعباً اليوم، هو ندرة وثائق تاريخية تعزّز هذه الروابط، والسبب يعود إلى أنّ أصحاب الرقيق لجأوا إلى الضغط على مستعبديهم لاعتناق المسيحية منذ وصولهم إلى الولايات المتحدة، ومنعوهم من ممارسة دياناتهم السابقة. ويعتقد الباحثون، رغم ذلك، أن عدداً من المستعبَدين من أصول إسلامية، كانوا يتقنون اللغة العربية، وقد حافظوا لبعض الوقت على معرفتهم بالآيات القرآنية، ومن الممكن أنّهم بقوا، طوال عقود، يرددون مزيجاً من الآيات والأدعية إلى الله أثناء عملهم في الحقول أو حتّى أنهم واظبوا على صلواتهم. بعض الباحثين استنتجوا من أقوال بعض أحفاد المستعبَدين، بأنّهم يذكرون أجدادهم وهم يصلّون للشمس والقمر، أنّ تلك الصلوات التي تحدثوا عنها قد تكون في حقيقة الأمر ليست إلّا الصلوات الإسلامية عند شروق وغروبها.
عنصر إضافي قد يربط الإسلام بالبلوز هو أنّ أوائل أغاني البلوز كانت تتوجّه إلى الربّ لمساعدة الرقيق على تحمّل الأعباء المفروضة عليهم، وتتضمن حنيناً للأيام الجميلة التي تسبق زمن الإستعباد.
بالنسبة الى عالمة الأنتروبولوجيا والمؤرخة الفرنسية - السينغالية الأصل، سيلفيان ديوف، استطاع بعض الرقيق المسلمين أن يحافظوا على دياناتهم لفترات طويلة. وتقول إنّ مستواهم العلمي المتقدّم، مقارنةً بغيرهم من المستعبَدين، وقدرتهم على قراءة وكتابة اللغة العربية، ساعدهم على تولي مهمات أكثر أهمية من غيرهم في هرمية الرقيق. وتشير في كتابها، "عبيد الله: المسلمون المستعبَدون في أميركا"، أيضاً كيف أنّ عدداً من الرقيق المسلمين كانوا في واجهة عمليات التمرّد ضد ظلم أصحاب الرقيق. وإن كان الإسلام قد اختفى من ممارسات وذاكرة الرقيق، على مدى قرون من انقطاع التواصل مع العالم الإسلامي، فمن المؤكد أن الشعور بانتماء أصيل إلى الإسلام دفع العديد من السود من أحفاد الرقيق الأفارقة، إلى اعتناق الإسلام كردّ فعل سياسي في بدايات القرن العشرين مع نشوء حركة أو طائفة "أمة الإسلام". فتلك الحركة ساهمت في ترسيخ فكرة أصول الأفارقة الإسلامية، كنوع من التمرّد على تاريخ الإستعباد المرتبط بالمسيحية، والعودة إلى جذور تسبق حقبة الإستعباد. وما زال لتلك الطائفة حضورها وجمهورها حتى اليوم.
قد يصعب على الأميركيين اليوم تقبّل الرابط بين الإسلام والبلوز، ربما لأن الإسلام في أذهان غالبيتهم هو دين محافظ إلى حدّ كبير ويرفض الموسيقى. لكن الرفض لأي نوع من تأثير للإسلام في النسيج المعقّد والغني للثقافة الأميركية، في ظلّ "شيطنة" الدين الإسلامي، يعود إلى أنّ الإسلام يُعتبر، بالنسبة إلى الغالبية، ديانة دخلت الولايات المتحدة في حقبة حديثة نسبياً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها