عدد كبير من البريطانيين لا يدرك، حتى يومنا هذا، أن المقيمين الأجانب هم مصدر تنوع وغنى. هؤلاء المقيمون الأجانب، فقراء في الغالب، سكنوا أصلاً الضفة الجنوبية لنهر التايمز. في هذه الضاحية الخارجة، يومذاك، عن قوانين لندن البروتستانتية المحافظة، وجد مسرحيو بريطانيا، من أمثال وليام شكسبير، مساحة موائمة لتقديم عروض تحولت إلى اعمال خالدة، منها أعمال كان من بين شخصياتها مسلمون ممن كانوا يحملون تسمية "مور" في أوروبا في ذلك الزمان. هذه "الضفة الجنوبية" نفسها هي اليوم قلب لندن الثقافي، فيها متحف "تايت" للفن الحديث، ومسارح متنوعة للعروض الثقافية.
علاقة الإسلام ودنيا المسلمين بأوروبا عموما، وبريطانيا خصوصاً، هي محور كتاب "السلطان والملكة"، الصادر حديثاً لجيري بروتون، استاذ "دراسات عصر النهضة" في جامعة لندن. ويستعرض بروتون في كتابه، ما يعتبره البدايات الأولى للتعارف بين الأوروبيين والمسلمين، بدءاً من الحوارات النمطية التي ألفها مسيحيون لمحاججة مسلمين مفترضين وتفنيد المعتقدات الإسلامية، مروراً بالمراحل العديدة التي سبقت ظهور اول ترجمة انكليزية للقرآن. ويقتصر تاريخ بروتون على علاقة المسلمين ببريطانيا، إذ أن علاقة الأوروبيين بالمسلمين تعود الى القرن الثامن، على الأقل، والحكم العربي في الأندلس.
ويعتبر بروتون، في كتابه الموجز نسبياً، أنه، بسبب الانقسام بين إسبانيا وفرنسا وإيطاليا الكاثوليكية والبابا، من جهة، وبريطانيا وألمانيا وهولندا، اللوثرية الإصلاحية، من جهة ثانية، وجدت بريطانيا نفسها في عزلة عن القوى الأوروبية وعرضة لمحاولات القضاء عليها اقتصادياً وعسكرياً. لم يكن أمام البريطانيين، يقول بروتون، إلا البحث عن قوى لإقامة شراكة معها أبعد من أوروبا، فشكلوا شركات مالية محلية مساهمة، كانت الأولى من نوعها، لتمويل مغامرات بحرية، قادتهم إحداها عبر المحيط الشمالي المتجمد، إلى موسكو، ومنها إلى إيران. كذلك زار البريطانيون السلطنة العثمانية، وتم تأسيس صداقة بين الطرفين ضد عدويهما المشترك، أي أوروبا الكاثوليكية. أما القوة الأقرب لبريطانيا، فكانت المغرب العربي، الذي كان يخضع لعمليات بسط نفوذ من البرتغاليين والإسبان.
وأسس البريطانيون علاقات تجارية، وحصلوا على امتيازات من اسطنبول، وباعوا الأسلحة إلى العثمانيين والمغاربة، على الرغم من قيام بابا روما، بتحريم بيع أي أسلحة مسيحية الى حكومات إسلامية. وتوّج البريطانيون شركاتهم المساهمة التجارية، بشركة الشرق، التي حكمت شبه القارة الهندية، جوهرة التاج البريطاني على امتداد القرن التاسع عشر، وحتى نيل الهند الاستقلال في العام 1947.
ويقدم بروتون عرضاً شيقاً للرسائل المتبادلة بين اليزابيث الأولى ملكة بريطانيا، والسلاطين العثمانيين المتعاقبين، ويعرض كيف أقام البريطانيون مكتب مصالح تجارية حكومياً في السلطنة، والذي تحول الى بعثة ديبلوماسية في زمننا الراهن. كما يقدم الكاتب المراسلات التي أطلع فيها المندوب البريطاني في اسطنبول، أسياده في لندن، على الرشاوى التي قدمها الى من شغلوا مناصب رفيعة في الباب العالي العثماني، وكيف اشترى صداقاتهم، وحاز ثقتهم، ووضع ذلك في خدمة مصالح بريطانيا وتجارتها. واستمر فرمان الامتيازات العثمانية للبريطانيين قائماً 383 عاماً، حتى دخول السلطنة إلى جانب ألمانيا، في الحرب العالمية الأولى، ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا في العام 1918.
ومن الحكايات المثيرة للاهتمام في كتاب "السلطان والملكة"، عرض قدمه حكام المغرب لنظرائهم في بريطانيا للدخول في شراكة، يمولها المغاربة، لإقامة مستوطنات في القارة الأميركية الشمالية، وهو عرض لم يتبلور لأسباب مختلفة. إلا أن معرفة أن المغرب كان ينوي استيطان اميركا، على غرار الامبراطوريات الفرنسية والاسبانية والبرتغالية، وقبل البريطانيين أنفسهم، هي قصة شيقة من التاريخ.
ومن التاريخ أيضاً نموذج عن العلاقات الدولية، ما زال سائداً حتى يومنا هذا. فالإيرانيون الشيعة تحالفوا مع أوروبا الكاثوليكية، نكاية بخصومهم العثمانيين السُنّة. والبريطانيون البروتستانت، تحالفوا مع السلطنة والمغرب السُنّة، في مواجهة أوروبا الكاثوليكية. فيما الدول الصغيرة، مثل الإمارات الإيطالية وبابا روما، دعت إلى تشكيل تحالف مسيحي عريض، في تكرار للحملات الصليبية، للهجوم على السلطنة واحتلال أراضيها.
أما الدول الصغيرة في القرن السادس عشر، فلم تكن في حسبان اللعبة الدولية، مثل تحالف توسكانا مع الأمير اللبناني فخرالدين المعني الثاني. وكانت توسكانا تسعى الى فتح طريق تجاري عبر أراضي السلطنة من دون المرور باسطنبول، لكن توسكانا لم تكن قوة بارزة مثل جارتها دوقية البندقية، وفخرالدين لم يصمد أمام أول تحرك عثماني اقتلعه من جبل لبنان.
يختم بروتون كتابه بالإشارة إلى أن علاقة أوروبا بالمسلمين قديمة، وليست وليدة الساعة، وأن عداء أهل البلد للمقيمين هو عداء قديم كذلك. ويأسف الكاتب لأنه عداء ما زال يتكرر في أوروبا وأميركا حتى اليوم. ومع أن بروتون يغوص، أكثر من المطلوب أحياناً، في تفسير المسرحيات البريطانية، أو في حياكة قصص المبعوثين والمغامرين البريطانيين الى دول الشرق، إلا ان كتابه شيق ويستحق القراءة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها