"منذ عشر سنوات، وأنا أُمضي أغلب وقت حياتي على الأوتوستراد، وأضع فيه كلّ طاقتي وتركيزي. أشعر أني لا أشتغل في الجامعة بل في الأوتوستراد. عشت السنوات الأولى من علاقتي مع هذا الكمّ الحديدي في توتّر دائم من كلّ ما هو حولي، من العجقة وعنف الناس مع بعضهم البعض وإشارات السير. ثم قرّرت أن أتصالح معه وأن يصبح هذا الوقت ممتعاً.. وإلا فهي الكارثة".
جمّعت الممثلة ريتا ابراهيم، خلال السنوات الأخيرة، قصصاً ومشاهد كثيرة من يومياتها المتكرّرة المتجدّدة على الأوتوستراد الجنوبي لبيروت، وقدّمت في مسرحيتها الأخيرة، "عالأوتوستراد"، التي عُرضت في مترو المدينة في بيروت هذا الشهر، مجموعة منها. فـ"الأوتوستراد حالة لا تنتهي، كلّ يوم هناك مادة. اخترت من بين المواقف التي حصلت لي، المضحك منها، وما هو مُشترك مع الكثيرين".
في ظلّ القلق والتوتّر اليومي، بين جنون السيارات المتسابقة على الطريق السريع، أو الازدحام الخانق، بدأت ريتا تكتشف جوانب مسلّية في هذا الجوّ المملّ والمشحون: الراديو وما يصدر عنه، واتصالات الناس على البرامج الإذاعية، و"صرت أمارس أيضاً تمارين التأمل الصباحية على الإشارة الحمراء، زفير شهيق لمدّة ثلاث دقائق... وبدأت أنتبه أكثر للمشاهد وللناس من حولي وأكتب ما أرى".
خلال 55 دقيقة هي مدّة العرض، تُخبر ريتا بعفوية وخفّة وأداء مُتقن ينقلنا إلى الأوتوتستراد، بعضاً من قصصها ومشاهداتها على هذه الطريق "الكبيرة الحديديّة".
تصف توقفها على الإشارة الحمراء نفسها يومياً، لسنوات عديدة، وفي التوقيت ذاته، مع الوجوه ذاتها التي تحاول مثلها احتساب الوقت المناسب لتفادي الزحمة فتكون السبب فيها.
وتروي كيف أنها راحت تحوّل ضجّة الشارع المزعجة إلى لحن جميل، وشرطي السير الصارم إلى ضابط إيقاع طريف، وسيارتها إلى خشبة مسرح، في خواطر ذهنية سارحة، غالباً ما كان يقطعها زمّور شاحنة أو سيارة إسعاف أو "بيك آب" محمّل بالخضار.
"كلّ شيء على الأوتوستراد هو إحتمال حادث، يمكن أن يكون مضحكاً وسخيفا،ً لكنه قد يكون مُميتاً. إذا كنت متوقّفة وراء شاحنة خضار وفاكهة مثلاً، ما المانع أن تسقط منه بطّيخة وتنهي حياتي؟" تقول ريتا.
ركّزت ريتا، التي درست المسرح في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، على حوادث الطرق بطريقة كوميدية، في بلد يتناقل بشكل شبه يومي أخبار انقلاب شاحنة على طريق مكتظ، أدى الى قتلى وجرحى، أو أغرق آلاف الاشخاص في ازدحام خانق.
وتناولت في عرضها الساخر "يومياتنا جميعاً ونحن في السيارة، وشعورنا بعنف الطرق وبعنف الناس وما يمكن أن يستفزّنا خلال قيادتنا"، كما علّقت إحدى الحاضرات، التي تمضي هي أيضاً ساعات من نهارها على الطرق.
"فكرة تجميع مواقف ومشاهد من يومياتنا على الأوتوستراد أو في الطرق الفرعية وعرضها في مسرحية بهذا الشكل وبهذا الأداء، ذكية وجميلة وجديدة، على أمل أن تُستكمل في عروض أخرى ومشاهد أخرى"، قال مشاهد آخر للعرض الأخير للمسرحية.
تشكّل مسرحيّة "عالأوتوستراد" إذاً توثيقاً لمشاهد الطرق في لبنان، من ردود أفعال عنيفة لدى وقوع اصطدام، مروراً بمشهد عربات النقل الثقيلة المتسابقة بخفّة بين السيارات وأرواح البشر وكأنها عربات مدينة الملاهي، إلى العبارات المكتوبة في مؤخرة الشاحنات مشتّتة أنظار السائقين "عالمطبّ دلّعني، اتنين مالهومش أمان الفرامل والنسوان، رضى الوالدين أهم من رضى أمك وأبوك"، وصولاً إلى تعليقات رجال الشرطة للنساء السائقات، أو أسئلة عناصر الجيش لهنّ على الحواجز.
تُخبر ريتا أيضاً عن الإعلانات التجاريّة المرفوعة على جانبي الطريق، والتي تتحول إلى عيون تلاحق السائق، وعن العشّاق الذين لا يجدون سوى الأوتوستراد مسكناً مؤقتاً لحبّهم، فيما جنون السيارات يسابقهم من اليمين والشمال، وعن ظاهرة الأولاد المتسوّلين الآخذة في التكاثر.
الأوتوستراد ليس طريقاً سريعاً فحسب في عيني ريتا ابراهيم، بل هو مائدة طعام في الأعياد، ومعرض لربطات العنق و"لوجوه تأكل بعضها" في موسم الإنتخابات. وعندما تمرّ جنازة، يحوّل بطء المشهد الأوتوستراد إلى "مجلس عزاء".
من بين ما روته ريتا أيضاً في عرضها المكثّف، رد فعل الشاب عندما يستدرك أن السيارة التي تجاوزته تقودها امرأة، "فتنجرح رجولته"، وظاهرة الأطفال الذين يضعهم أباؤهم أو أمهاتهم في أحضانهم، ويجعلونهم يُمسكون بمِقود السيارة على الأوتوستراد، ليكتمل بذلك طوق الهذيان والخطر على الطرق السريعة في لبنان.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها