اشتهرت الفرقة في بداية اطلالاتها عام 2013 بأغنية "دونت ميكس" تعليقاً على خطاب الرئيس المصري السابق محمد مرسي، لكنها سرعان ما أدخلت تعديلاً عليها عند الإنقلاب العسكري الذي أطاح به في العام التالي لتصبح "دين وسمك ولبن وعسكر وسياسية... دونت ميكس".
تناولت الفرقة أيضاً ظاهرة أبو بكر البغدادي، "فرحة العصر" كما أسموه، والاستبداد السياسي، والموت اليومي، رافقت التحرك الشعبي الذي شهده لبنان بعد أزمة النفايات بأغنية "كلّن يعني كلّن"، معلّلة في أغنية أخرى أسباب جنون الشعب فيه. كما روى مغنياها والعازفون الأربعة فيها قصصاً ومشاهدات أخرى متنوعة في حفلاتهم السابقة.
كتب خالد صبيح معظم كلمات أغاني الفرقة ولحّنها. درس صبيح التأليف الغربي مع المايسترو مارون الراعي قائد أوبرا لبنان، ومن بعدها تعلم الموسيقى المشرقية في الجامعة الأنطونية وتخصص في الإنشاد الديني في مصر إلى جانب اختصاصه في الدراسات الإسلاميّة، لكنّ عمله الأساسي اليوم في مجال الصحافة.
وكان معه هذا الحوار...
- الأسطوانة التي "أطلق سراحها" هي توثيق لعمل بدأته الفرقة منذ تأسيسها في العام 2013 إلى اليوم. ماذا تقول عن هذه المرحلة، وهل تحقّقت الأفكار التي كنتم تنوون تنفيذها؟
* منذ البداية ونحن نسير في الفرقة على غير هدى. الفكرة كانت أن نشتغل في الموسيقى من دون قيد أو شرط، ولم يكن هناك توّجه مقصود بتأليف أغنيات إجتماعية وسياسية. صودف أن الفرقة تأسست العام 2012 وأول عرض لها كان العام 2013، في فترة غليان المنطقة. المواضيع التي كانت تشغلنا وتهمّنا هي التي غنيناها. في الألبوم 12 أغنية وموسيقى تتكلّم في معظمها عن الظواهر القصوى التي نعيشها بين الاستبداد السياسي والتشدّد الديني، والقتل اليومي المجاني وتعامل الإعلام مع هذه الظاهرة، وعن طبيعة المنطقة وبعض فصائلها التي ترى في كل ما يحدث إنتصاراً لها، وعن المثقف المفصول عن الواقع والمُمانع فكرياً، إضافة الى أغنيات مثل "لمّا بدا يتثنى" لا تعبرّ في المضمون عن هذا الوضع، لكن آمل أن تكون طريقة تنفيذها بما فيها من حيوية وسرعة وغضب تعبّر عن شكل مجتمعنا ومنطقتنا اليوم. عندما أسمع موسيقى "المعادي" لمحمد عبد الوهاب مثلاً، أشعر كأني في القاهرة في الأربعينات، وحين أسمع الشيخ
سيد الصفتي أشعر أنني في العام 1910، أتمنى أن نكون نجحنا في أن يكون عملنا إبن مكانه وزمانه.
الألبوم هو اختتام للمرحلة التي مرّت، وتوثيق للأفكار التي كانت تدور في أذهاننا، وهو اختتام لمرحلة أولى من التعاون مع أعضاء الفرقة الستة. فالألحان والجوّ والمزاج لن تكون هي ذاتها بوجود أشخاص مختلفين.
- ما هي خصوصية أعضاء الفرقة؟
* المزاج وروح السخرية والقرف من الأوضاع العامة هي سمات مشتركة بين أعضاء الفرقة الستة. هناك حيوية قوية بيننا وتنوّع في الأداء بين صوتيّ ساندي شمعون ونعيم الأسمر، والعزف العنيف المتوتر حيناً والتقليدي حيناً آخر لعماد حشيشو وعبد قبيسي وعلي الحوت، وقدرة الفرقة على التجوال بين أجواء موسيقية مختلفة. نعيم مغنّ مُحترف ولديه مقدرة صوتية بالتنقل من جوّ يكون فيه شيخاً ومنشداً إلى جوّ آخر يُخبر فيه قصة للجمهور ويحكي معه ويُضحكه أو يُطربه. ولصوت ساندي شجن ومزاج خاص ونبرة خاصّة جداً، هو مصري أكثر منه لبناني وصعيدي وبلدي بالتحديد. الخلطة بين نعيم وساندي جميلة جداً.
علي وعبد لديهما مشروع خاص يمزج بين الموسيقى الالكترونية والايقاع، وهما يعملان أيضاً مع فرق للموسيقى الكلاسيكية العربية، أما عماد فيجول بين عدد كبير من المشاريع الموسيقية المختلفة المزاج.
هذا التنوّع يغني الفرقة كثيراً.
- كيف تطور عملك الموسيقي من فرقة "صدى" لإعادة إحياء التراث، إلى فرقة "ربيع بيروت" وصولاً الى "الراحل الكبير"، وهل الوضع العام في المنطقة واندلاع الثورات ساهم بتغيير علاقتك مع التراث أو مع "الراحل الكبير" كما تسمّيه؟
* نحن ننتمي إلى جيل تغيّر وأعاد التفكير ورفض الاستكانة بعدما وصل إلى طريق مسدود، ونتيجة هذا صار ما صار في المنطقة. أنا تغّيرت بالموسيقى وبغير الموسيقى. مررت بتيارات فكرية مختلفة كلها تقليدية، سواء سمّت نفسها محافظة أو تقدمية، والأمر ذاته انطبق على الموسيقى. كنت مع فرقة "صدى" أريد إحياء التراث، وكأن القديم لم يأخذ حقّه بعد وهو في انتظاري لأكرّمه وأحييه، علماً أن كثراً قد قاموا بهذه المهمة على أكمل وجه.
بعد انكفائي عن إحياء التراث، أتت مرحلة "ربيع بيروت" 2005-2009 ونتج عنها الألبوم الأول "لك أنت"، وهي مرحلة أنظر إليها بتبسّم اليوم لأن فيها بعض الحلم والرومانسية الثورية إذا صحّ التعبير، التي تُشبه الجوّ العام الذي كان سائداً في البلد وقتها. وبعدها أتت تجربة "الراحل الكبير". تأسست الفرقة بعد اندلاع الثورات في المنطقة وبعدما تلاشى الشعور بالفرح الذي أحسسنا به مع بدايتها بأن الأماني تتحقّق، وبأن منظومة الشعارات والأكاذيب التي ترفعها الأنطمة الاستبدادية تنهار. رأيت هذا الإنهيار بعيني عندما كنت أعمل بالتغطية الصحافية من قلب ميدان التحرير لحظة سقوط حسني مبارك. اندلعت بعدها الثورة في سوريا، مع كل الأمل الذي رافقها بانتهاء الكابوس الذي عشناه ويعيشه السوريون. وإذ تحوّلت أحلامنا الى كوابيس جديدة، ودخلنا من جديد في أكاذيب وتضليل وقتل مجاني وعدم محاسبة. حيال هذا الوضع هناك خياران أمامنا، إما الجنون أو محاولة التعبير بشتّى الطرق عما نشعر به. في حالتنا عبّرنا عن مشاعرنا وأفكارنا بالموسيقى التي ترافق الكلام، وبحالة السخرية والضحك والبكاء على الهذيان العام الذي نعيشه.
- من هنا أتى الدافع لأن تكتب كلمات الأغاني، بعدما كنتَ سابقاً تلحّن قصائد جاهزة؟
* كانت عندي مشكلة في السابق مع التلحين ومع كتابة كلمات الأغاني. عندما كنت أبد الكتابة أو التلحين، كنت أتذكر مثلاً "ريم على القاع بين البان والعلم – نهج البردة"، فأخجل من نفسي إن أردت أن أكتب كلاماً بعد أحمد شوقي أو أؤلف لحناً بعد رياض السنباطي، فأتوقف في معظم الأحيان عن التلحين والكتابة. مع "الراحل الكبير" انكسرت هذه العقدة تماماً. لا أريد أن أؤلف سيمفونيات ولا أعمالاً خالدة، أريد فقط أن أكتب كلاماً يُشبهني ويشبه ما نعيشه وألحّنه.
- عرّفتم سابقاً عن الفرقة أنها "تُعنى بجرف التراث"، في الوقت الذي يبدو واضحاً أن أسلوب تقديم القصص المغنّاة حديث، لكنه مشبّع بمخزون من السمع والعمل بالموشحات والأدوار والإنشاد الديني، وهناك أيضاً استعادة في حفلاتكم لأغاني من التراث البعيد متل "لما بدا يتثنى" والقريب مثل أغاني قدّمتها الفرقة لسيد درويش وللشيخ إمام..
* نحن قدّمنا أنفسنا على أننا فرقة لا تبغي الطرب وتُعنى بجرف التراث، هذا تعبير كاريكاتوري. فنحن فعلاً لا نبغي شيئاً لكننا لم نأت من المريخ ولا نؤلف موسيقى من العدم أو لا تشبه ما قبلها، نحن انطلقنا من هذا التراث. المقصد هنا هو ألا نكون مثل من يستعيد القديم في هذا الوقت من دون أن يحاول إيجاد كلمات وألحان تعبّر عن زمننا هذا. هناك إستعادة في حفلاتنا لموشّح الشيخ عبد الرحيم مسلوب المولود، في القرن الثامن عشر، لكن من دون إعادة توزيع هذه المرّة، بل بمحاولة تعديل هيكل اللحن من الداخل، وكأننا نقول لو لُحّن هذا الموشح اليوم، كيف كان سيُلحّن؟ استعدنا أيضاً بعض أغاني سيد درويش وهو مؤسس النهضة الموسيقية في القرن العشرين، وقدّمنا بعضاً من أغانيه التي تشبه بكلماتها وديناميكيتها وسرعة البديهة فيها ما نحاول أن نكون عليه اليوم، وكأن هذه الأغاني مؤلفة اليوم.
أما الشيخ إمام، فالعلاقة معه بالنسبة لي مستجدّة، بدأت بعد تأسيس "الراحل الكبير"، ولست فخوراً بموقفي الأيديولوجي السابق تجاهه. أحد أسباب رفضي له كان ارتباطه في ذهني بأغنيتين أو ثلاث تُردّد في تظاهرات الشيوعيين النمطيّة وجلساتهم النمطيّة وأحاديثهم النمطيّة. مع "الراحل الكبير" دخلت إلى عمق موسيقاه وألحانه ومواكبتها للأحداث وتعبيره الساخط بشكل ساخر عنها.
- لا تحبّ اعتبارك موسيقياً ملتزماً، لماذا؟
* هناك حدّان نقيضان أحاول تجنّبهما: الأول هو أن يعرّف الموسيقي عن نفسه بأنه ملتزم، مما يستتبع كونه جدّياً وصاحب رسالة، وكل ما يفعله يصبّ في صورة الفنان الملتزم التي يريد المحافظة عليها. فكرة الموسيقى الملتزمة كانت في مكان ما لعنة على الموسيقى وعلى القضايا نفسها، فكثيرون كانوا يغنّون لفلسطين لاستجداء التصفيق والاهتمام، يمتطون فلسطين ويوظّفونها في سبيل موسيقاهم، أما عن المستوى الفنّي فلا حول ولا قوّة إلا بالله.
واحد منهم لم يتردّد عن القول في حفلة في أوروبا "من الصعب أن تكون موسيقياً وفلسطينياً في وقت واحد".
لكن موسيقيين آخرين هم أبناء فلسطين ومعاناة فلسطين لا يفعلون ذلك، مثل تامر أبو غزالة مثلاً، لا يستثمر في أنه فلسطيني. عندما أسمع موسيقاه وأداءه أسمع ألحاناً وأداء فيهما توتر وتشوش واضطراب وحركة، موسيقاه بالنسبة لي هي تعبير عن الفلسطيني أو السوري وكلّ من يعيش اضطهاداً وعنفاً وترحالاً.
الحدّ الثاني الذي أحاول تجنّبه هو أن أكون من هؤلاء الذين يقرّرون أن كلّ ما يجري في مجتمعهم تفاصيل، هم وموسيقاهم أكبر منها، فيؤلفون ما لا هويّة له ولا مكان ولا زمان، هذا ما يعبّرون عنه بأن الفنّ هو للفنّ فقط.
- وفي الختام؟
* الشكر لمؤسسة "آفاق" لتمويل الألبوم و"مترو المدينة" الذي هو ليس فقط مكاناً للعرض بل هو ملتقى لموسيقيين ومغنين ومسرحيين وراقصين من جنسيات عديدة. تكفّل "مترو المدينة" منذ سنة بإدارة أعمال الفرقة وساهم أيضاً في تمويل النفقات الباقية علينا لإنتاج الألبوم مشكوراً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها