"إن فن الحكي يصل الآن إلى نهايته لأن الجانب الملحمي من الحقيقة، أو لأن الحكمة، تموت"، هكذا يلخص الفيلسوف الألماني
فالتر بنيامين (1892 -1940)، نبوءته عن انتهاء فن الحكي واندثار شخصية الحكواتي، في مقاله المكتوب العام 1936، والذي أعادت
مجلة فصول (عدد ربيع/صيف 2014) نشره بترجمة الدكتور خيري دومة، فبنيامين يرى أن ظهور الرواية ليس وحده السبب في اندثار القصة، كما ادعى كثيرين، وإنما لأن "القدرة على التواصل بخصوص الخبرة آخذة في التناقص".
يعتبر "بحث" الحكواتي، الذي استهدف دراسة فن الحكي عند الأديب الروسي المؤثر نيقولاي ليسكوف (1831 – 1895)، درسًا مهمًا في الكتابة والفروق بين الرواية والحكاية والقصة، أكثر منه تتبعًا للسمات الفنية للحكاية عند الأديب الروسي أو بعض الأدباء الألمان الآخرين الذين استهدفهم المقال، بل وقد يحمل في طياته، نصائح غير مباشرة للأديب، وإن عُدّ في النهاية بمثابة نظرة تشاؤمية عن انتهاء ظاهرة الحكواتي بعد ليسكوف، وقد يكون ذلك حكمًا غير دقيقًا، كون المقال كتب في العام 1936، لكن فالتر بنيامين لا يطلق حكمه جزافًا، إذ يتطرق للموضوع عبر طرح نقدي لمفهوم تقنية الحكي، وماهية الحكواتي وصفاته، ضاربًا العديد من الأمثال عن كلاهما وارتباط اندثار الحكي بالرواية.
فطن بنيامين إلى تدهور ظاهرة الحكي، بعد الحرب العالمية الأولى "إن ما انسكب في عباب الحرب، لم يكن بعد عشر سنوات، سوى خبرة تنتقل من فم إلى فم، ولم يكن هناك شيء ملحوظ حول ذلك، لأنه لم يحدث أن تعرضت خبرة للإنكار على هذا النحو الموغل". وكأن الأمر يبدو "كما لو أن شيئًا ما، لا يقبل الانتقال إلينا، إن أمن من ما نملكه قد أُخِذَ منا: أعني القدرة على تبادل الخبرة".
فالحكي، بحسب بنيامين هو "دائمًا فن تكرار القصص وهذا الفن يضيع حين لا تعود القصص محفوظة. يضيع لأنه لا يحدث مزيداً من النسج والغزل بينما يستمع المستمعون، وبقدر ما يكون المستمع ناسيًا لنفسه، يكون وقع ما يستمع إليه عميقًا في ذاكرته، وعندما يأسره إيقاع العمل فإنه يستمع للحكايات بالطريقة التي تجعله يستعيد تمامًا موهبة إعادة حكي القصص. وهذه نفسها الكيفية التي تنحل بها اليوم تمامًا، بعدما جرى نسجها منذ آلاف السنين في ظل أقدم أشكال الحرفية".. ويوضح الفيلسوف الألماني في موضع آخر أن التداخل الذي جرى بين نموذج الفلاح المقيم، والتاجر المسافر، في العصور الوسطى على وجه الخصوص في بنيتها التجارية، حين عمل الفنان الحرفي المقيم والرحالة المسافر معًا في الغرف نفسها، حيث أصبحت طبقة الحرفيين جامعة الحكي، وفيها تجمعت الحكمة من أماكن متباعدة، وهو ما أوجزه الشاعر الجنوبي الراحل عبد الرحيم منصور، في قالب شعري تقمص في شخص الحكواتي، بقوله: "نُص الكلام ده بتاعي/ والنُص مش ليا/ أنا جبته بدراعي".
ويفصل بنيامين بين الحكاية كنموذج أدبي وبين الرواية، فالذي يميز شكل الرواية عن أشكال الأدب النثري أنها لا تأتي من الموروث الشفاهي ولا تذهب إليه، فـ"الروائي يعزل نفسه، ومحل ميلاد الرواية هو الفرد المنعزل، الذي لم يعد في قدرته التعبير عن نفسه، بإعطاء نماذج من أهم ما يشغله، فهو نفسه لا يستشيره أحد، وليس بإمكانه أن يستشير آخرين، أن تكتب رواية يعني أن تحمل الأشياء غير القابلة للقياس إلى نهايتها، في تمثيل الحياة الإنسانية". هذا معلا الوضع في الاعتبار أن فالتر يرى أن الحكواتي شخصًا يحمل "المشورة" للقراء، ويقول: "إذا كان حمل المشورة اليوم قد بدأ يصبح أسلوبًا قديمًا، فما ذلك إلا لأن القدرة على التواصل بخصوص الخبرة آخذة في التناقص، ونتيجة لذلك فنحن لا نحمل المشورة، لا لأنفسنا ولا للآخرين، والمشورة بعد هذا كله، هي اقتراح يتعلق باستمرار قصة تتكشف للتو، أكثر مما هي إجابة عن سؤال، ولكي يبحث عن هذه المشورة، عليه أولا أن يكون قادرًا على سرد القصة.
أما القصة القصيرة ففي رأيه، أنها أبعدت نفسها عن الموروث الشفاهي، ولم تعد تسمح بذلك التراكم البطيء لطبقة فوق طبقة من الطبقات الرقيقة الشفافة، التي تشكل الصورة الأنسب للطريقة التي يتكشف بها السرد الكامل، عبر طبقات لتنويعة من إعادة الحكي، فنصف الفن في حكي القصص-بحسب قوله- هو أن يبقي المرء على القصة خالية من الشرح وهو يعيد إنتاجها، فإن أشد الأشياء تناقضًا، وأكثرها غرابة، تروى بوضوح كامل. أما التداعيات السيكولوجية للأحداث فلا تفرض على القارئ، تترك هذه التداعيات للقارئ للكي يفسر الأشياء بالطريقة التي يفهمها. وبهذا يصل السرد إلى مدى تعجز المعلومات عن الوصول إليه".
وبناء على قيمة الحكمة، في ما يلقيه الحكواتي من القصة، فإن الناس يتخيلون الحكواتي شخصًا يأتي من بعيد، حيث أن الذكاء الذي جاء من بعيد، سواء من بلاد أجنبية بعيدة في المكان، أو من تراث بعيد في الزمان، امتلك سلطة أعطته مصداقية، حتى لو لم يخضع للاختبار، ولعل هذه الفرضية الأخرى التي طرحها بنيامين، تفسر سبب إقبال القارئ بشكل عام، على الروايات الملحمية الحديث، أو التاريخية منه، بغض النظر عن القيمة الفنية الحقيقية لتلك الأعمال.
أما عن صفات الحكاء، فأولاً وجب عليه التعامل مع الفن باعتباره حرفة، كما يقول ليسكوف نفسه "إن الكتابة بالنسبة لي ليست فنا حرا، بل حرفة"، وأيضًا فإن الحكواتي العظيم برأي فالتر بنيامين يضرب على الدوام بجذوره في الشعب، خصوصًا في بيئة الحرفيين منهم (...) فكل الحكواتية العظام "لديهم جميعًا الحرية التي يتحركون بها صعودًا وهبوطًا على درجات خبراتهم، وكأنما يتحركون على سلم، السلم الذي يمتد إلى أسفل حتى أعماق الأرض، ويتلاشى في السحب، هو صورة للخبرة الجماعية"، وهو الشخص الذي يتماهى مع الموروث الديني/الغيبي بالدرجة نفسها التي يتماهي فيها مع الحياة العملية، بحيث يصعب "أن تقرر ما إذا كانت الشبكة التي تظهر فيها هي النسيج الذهبي للنظرة الدينية لمسيرة الأشياء، أم النسيج التعددي للنظرة الدنيوية".
أو حسبما يقول ليسكوف:" إن العصر الذي يستطيع فيه الإنسان أن يؤمن أن هو نفسه في حالة انسجام مع الطبيعة، قد انتهى، يسمي شيلر تلك الفترة من تاريخ العالم فترة شعر السذاجة، والحكواتي يحافظ على إيمانه بها، عيناه لا تتركان قرص الساعة ذاك، الذي يتحرك أمامه ركب الكائنات، والموت بالنسبة لهذه الكائنات –ووفقًا للظروف- إما أن يكون القائد، أو المحارب الأخير البائس".
وبناء على تلك الصفات، التي طرحها بنيامين وليسكوف مجتمعين، فإن الحكواتي لم يندثر، والدلائل كثيرة على ذلك في الأدب الحديث –عالميًا- الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى النطاق المحلي فإن تلك الصفات السابقة بالنسبة لفن الحكي أو الحكواتي، سنجدها تتجمع في شخص ا
لكاتب المصري الراحل يحيى الطاهر عبدالله، ليس فقط لأنه الجنوبي الآتي من بعيد إلى المدينة "القاهرة"، وليس أيضًا لأنه تعامل مع الكتابة بوصفها حرفة، وناضل أن تعترف بها السلطات كحرفة رسمية له في بطاقة تحديد الشخصية، وتكتب مهنته: قاص، وليس لأنه كان يحفظ قصصه ورواياته كلها شفاهة، ويلقيها على أسماع قراءه، وإنما لأن يحي الطاهر هو الرجل الذي كان بإمكانه أن يترك فتيلة حياته، كي تستنفذها تمامًا الشعلة اللطيفة لقصته.
ويكفي أن ننتهي بالتوقف أما المفتتح السردي لروايته الأخيرة "الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة"، للوقوف على بنية الحكي، عند هذا الحكواتي العظيم، والتي يقول فيها:" حين رأى وقد أنهكه السير الطويل، وكان يصعد من الأسفل إلى الأعلى (المطعم الفاخر بواجهات من الزجاج، والرجل السمين القصير، وصاحبته التي تلبس بالطو من فرو الدب-يأكلان: عجلًا مشويًا وديكًا روميًا وطاووسًا محشًيا وحوتًا مقليًا، بعد أن شربا من جيد الخمر تسع زجاجات.. وأمامهما تورتة الحلوى على شكل شاحنة وبحجم شاحنة).
صرخ -هو الجائع الحافي العاري- صرخته الأخيرة، وارتمى في حضن أمه الأرض ليستريح –عليه السلام-".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها