عندما قصفت القوات الأميركية المتمردين في الفلوجة، بقنابل الفسفور الأبيض لتقليص الخسائر بين قوات المشاة الأميركية، التي كانت تستعد للاقتحام بعد انتهاء عملية القصف، كانت القيادة العسكرية تدرك أن هذا النوع من القنابل سيثير اعتراضات أخلاقية لدى كثيرين.
لكن القيادة كانت تعلم أيضاً أن الفوسفور الأبيض، هو سلاح كيماوي، ليس محظوراً دولياً إن تم استخدامه لأهداف الإضاءة، أو للتضليل بحجب الجنود عن الجهة المعادية، أو حتى لإحداث أضرار فادحة، مثل الحرائق لدى العدو، على شرط عدم استخدام هذه القنابل في مناطق على مقربة من مدنيين أو ضد أهداف مدنية.
تصريحات الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية جين باساكي، لناحية أن الادارة الاميركية تجري تحقيقات للتأكد من مزاعم استخدام قوات الرئيس السوري، بشار الأسد، لقنابل مزودة بغاز الكلور السام ضد المدنيين في بلدة كفرزيتا في ريف حماه، هي من باب الإيحاء أن واشنطن ما تزال صارمة في مواجهة الأسد.
لكن، قراءة بين السطور، توضح النية الأميركية. فكميات غاز الكلور في مخزون قوات الأسد ليست في المواد الكيماوية السامة المحظورة، من تلك التي وردت في لائحة مخزون الأسد الكيماوي، الذي تعهد بتسليمها. لا من المصنفة من النوع الأول، الأكثر خطورة وفتكاً، ولا من النوع الثاني، الأقل خطورة، ولكن المحرمة دولياً كذلك، ما يعني أن الأسد سيحتفظ بالمواد الكيماوية مثل غاز الكلور، أو أي مواد مشابهة لها غير محظورة بشكل مباشر.
وبعيداً عن الوجه الأميركي الصارم، والزائف في الوقت نفسه، تستعد وزارة الخارجية للاحتفال بما تعتبره إنجازاً، تتوقع أن يتحقق مع نهاية هذا الشهر، إذ أصبحت تقارير منظمة حظر الاسلحة الكيماوية الدولية، تشير إلى اقتراب الأسد من التزامه بموعد إخراج ١٣٠٠ طن من مخزونه الكيماوي، مع نهاية هذا الشهر من الأراضي السورية. على أن يتم تدميرها في البحر على متن سفن عسكرية، أميركية وأوروبية بحلول نهاية الشهر المقبل، والذي من المتوقع أن يتزامن مع تدمير الأسد لمعامل الإنتاج الكيماوية.
وعلى الرغم من تقديم نظام الأسد لاقتراحٍ يقضي بإغلاق معامل الإنتاج الكيماوية التابعة له، بدلاً من تدميرها، يصر الأميركيون على التدمير الكامل، وهو ما يرجح الخبراء في العاصمة الأميركية حدوثه.
ولأن القوى السياسية في العاصمة الأميركية تدرك أن الأسد صار يعرف قواعد اللعبة، أي أنه يستخدم مواداً كيماوية غير محظورة وينفي مسؤوليته عن استخدامها، أصدر بعض السياسيين المعروفين بتأييدهم للمعارضين السوريين، والمطالبين بتدخل أميركي أكبر للمساهمة في الاطاحة بالأسد، بيانات خلت من إداناتهم الصريحة المعتادة.
وفي هذا السياق، أصدر السناتور الجمهوري عن ولاية أريزونا، والمعروف بتأييده لتدخل أميركي أوسع في سوريا، جون ماكين، بياناً، اعتبر فيه أن هجوم كفرزيتا "يخرق روحية الاتفاقية" الأميركية - الروسية، الصادرة بقرار عن مجلس الأمن الدولي، والتي تطلب من الأسد تسليم ترسانته من الأسلحة الكيماوية المحظورة وتدمير معامل إنتاجها.
في موازاة ذلك، راح وجه الإدارة الآخر، الناطق باسم البيت الأبيض جاي كارني، يستفيض في الحديث عن التحقيقات التي تجريها الحكومة الاميركية لتثبيت نوع المواد الكيماوية المستخدمة في كفرزيتا، وعن مزاعم مفادها أن حكومته تبحث أيضاَ عن المسؤول عن القيام بالهجوم. مع أنه لم يستطرد إلى حد القول بأن أي هجوم كيماوي، لو ثبت وقوعه، سيحرك القوات الأميركية ضد قوات الأسد.
بدروها، شاركت فرنسا كذلك في الضجة المثارة حول هجوم كفرزيتا، وجاء البيان الفرنسي مشابهاً للتصريحات الأميركية الرافضة للتلويح بأي تهديدات لقوات الأسد، في حال ثبت استخدامها موادا كيماوية.
التصريحات الاميركية والفرنسية المتنوعة حول هجوم كفرزيتا لم يكن هدفها الحفاظ على أرواح المدنيين السوريين، أو التلويح بالعصا للأسد أو قواته، فالعواصم الغربية تعتقد أن "الأسد تعلم درسه" كيماوياَ، وأنه سيسلم كل المواد الكيماوية الممنوعة التي بحوزته، وأن أي حديث عن هجمات كيماوية جديدة، أو ردود فعل دولية عسكرية، هو من باب الثرثرة الإعلامية والسياسية، وأنه بتخليه عن ترسانته الكيماوية، التي كانت القيادة السورية تكرر أن هدفها إحداث توازن استراتيجي عسكري مع اسرائيل، نجح الأسد بتحييد الغرب، وسحب أي ذرائع كان يمكن للحكومات الغربية استخدامها للتدخل عسكرياً في سوريا.