أطلق جيش الاحتلال اسم "سهام" الشمال على عمليته العسكرية في جنوب لبنان والبقاع، الاثنين الماضي، والتي كانت قد بدأت فعلاً قبل ذلك بأسبوع مع تفجير أجهزة "البايجرز" واللاسلكي الخاصة بقيادات حزب الله وكوادره وقياداته الميدانية.
يبدو الاسم لافتاً لأنه قطع تماماً أقله شكلاً، وبدا منفصلاً عن الحرب بغزة، علماً أن الشمال هنا ليس مصطلحاً جغرافياً بحتاً، وإنما مرتبطاً بما يجري في الجنوب حتى لو أراد جيش الاحتلال عكس ذلك.
قالت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية الأربعاء الماضي، إن خطة التدخل الإسرائيلي البري في لبنان، كانت معدة مسبقاً وأسيرة الأدراج منذ عدة سنوات. ولكن بعد إضعاف أو تفكيك القدرات العسكرية لحماس جنوباً في غزة، حسب المزاعم الإسرائيلية، اعتقد جيش الاحتلال أنه بات في وضع يسمح له بالانتقال شمالاً، نحو الجبهة اللبنانية.
المفارقة هنا تتعلق بالسردية المتمثلة بفشل إسرائيل بغزة، وهى غير صحيحة أقله تكتيكياً، كون تل أبيب أنجزت المهمة جنوباً في غزة، ثم استدارت شمالاً إلى لبنان، وفي الطريق نفذت عملية مصغرة في شمال الضفة، كي لا يحدث العكس أثناء العملية في لبنان، بمعنى اندلاع هبة أو انتفاضة ما في الضفة تضرب خلفية الجيش المتجه شمالاً ضمن خطة وتصوّر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإطالة الحرب أو الحروب إلى أبعد مدى زمني ممكن، كي يبقى في السلطة لأطول فترة ممكنة، وبالتوازي إنجاز الانقلاب القضائي والسياسي، الذي كان ولا يزال يحلم به ويعمل عليه لمنع استئناف محاكمته بتهم الفساد واستغلال السلطة، أو تشكيل لجنة تحقيق رسمية مستقلة بإخفاقات 7 تشرين أول/اكتوبر، في مواجهة طوفان الأقصى، ما يعني بالمحصلة النهائية خروجه الحتمي والأكيد من الساحة السياسية والتاريخ من بابه الضيّق وربما إلى السجن أيضاً.
في السياق، ثمة سعي محموم من نتنياهو وحلفائه، لتكريس هيمنة اليمين المتطرف على السلطة بشكل تام مع نهاية حقبة إسرائيل الأولى -كانت يسارية بالمعنى الإسرائيلي طبعاً أكثر ديمقراطية وأقل تديّناً- والانتقال نحو إسرائيل الثانية اليمينية الأقل ديمقراطية والأكثر تديّناً في موازاة الانقلاب التام تجاه القضية الفلسطينية وتصفيتها مع تدمير غزة وعودة الحكم العسكري إليها ولو بشكل غير مباشر، ومحاصرة السلطة بالضفة ووضعها في خانة الهيئة الإدارية المحلية بدون أفق وجوهر سياسي، وهي نفس الهيئة التي يريد نتنياهو استنساخها في غزة تحت الوصاية العسكرية للاحتلال .
هذا يعني خوض حرب بل حروب أبدية، وبالقطع مغادرة المربع الغربي الديمقراطي نحو الاستبداد والأحادية والظلامية والسير في مسار النهاية، أو الصعود إلى الهاوية كما تنبأ ويتنبأ كثيرون في الدولة العبرية.
وبالعودة الى قصة الانتقال من شمال غزة الى جنوب لبنان، تجب الإشارة إلى انتقال الفرقة العسكرية (98) سيئة الصيت من غزة إلى لبنان، كي تعمل بإمرة القيادة الشمالية للاحتلال بدلاً من الجنوبية، وفي نفس السياق، جرى استدعاء لواءي احتياط خدما في غزة للانتشار على الجبهة مع لبنان.
الأمر يستحق التوقف عنده، ولفهم ما جرى ويجري في الشمال - جنوب لبنان، يجب أن نفهم أولاً ما جرى ويجري في الجنوب - شمال غزة، إثر طي مراحل الحرب الثلاث هناك، وانتهائها عموماً كما عشناها خلال العام الماضي، وتدشين فصلاً ثانياً مختلفاً منها، كما قال رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" ألوف بن الأحد الماضي.
يتضمن الفصل الثاني في الجنوب هيمنة عملياتية، وإعادة تشكيل الإدارة المدنية والسيطرة التامة على شمال غزة، وتمهيد الأرض للاستيطان فيه مقابل حصار كامل للوسط والجنوب، حتى لو استمرت حركة حماس في إدارة الحياة هناك.
وبموازاة ذلك بدأت المرحلة الثانية من الحرب في الشمال – جنوب لبنان، كما أعلن وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، وطي صفحة جبهة المساندة والمشاغلة المعلنة من قبل حزب الله، الذي أطلق تسعة آلاف صاروخ خلال عام تقريباً، أدت إلى مقتل 50 إسرائيلي، نصفهم عسكريين ونصفهم مدنيين أو مستوطنين، وبالطبع لم تؤثر تلك المشاغلة جدياً على مجريات الأمور في غزة، ولم تمنع إسرائيل من انهاء المراحل الثلاث من الفصل الأول، قبل الانتقال الى الفصل الثاني من الحرب، الذي قد يمتد لشهور طويلة أيضاً.
كانت إسرائيل قد رفعت السقف شمالاً بشكل تدريجي بطىء، ولكن متواصل، في تناسب عكسي مع إنجاز مراحل العدوان جنوباً في غزة، ورفعت الوتيرة المنخفضة وتجاوزت قواعد الاشتباك بشكل منهجي وصولاً الى مجزرة "البايجرز" ثم اغتيال القيادة العسكرية للحزب لإي الضاحية الجنوبية، بينما بقى الحزب ملتزماً بقواعد الاشتباك الخجولة طوال الوقت.
المرحلة الثانية تتضمن كذلك تنفيذ غارات مكثفة في الجنوب والبقاع لتدمير أكبر قدر ممكن من مكامن قوة الحزب واغتيال القيادة العسكرية والميدانية له، والتمهيد لتوغل برى في الجنوب أساساً بعد تهجير أهله وتحويله إلى أرض محروقة للمساومة والتفاوض من موقع أقوى.
في السياق هذا، يجب الاهتمام بالخطة الأميركية المطروحة شمالاً والتي تنص على هدنة مؤقتة ثم مستدامة، وهي متساوقة ومتماهية مع الخطط والأوراق الفرنسية والأميركية السابقة، المستندة أساساً إلى تطبيق القرار 1701، وهي الخطة التي يعمل عليها منذ شهور الوسيط الأميركي-الإسرائيلي عاموس هوكشتاين، وهو وحده يكاد يختصر القصة كلها، حيث إنه ضابط احتياط أدى الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، وكما يقول الزعيم وليد جنبلاط عن حق، فإن ولائه للبيت الأبيض ثم "الكرياه" - مقر قيادة جيش الاحتلال في تل أبيب - حيث قادته، علماً أنه تلقى بالتأكيد أوامر استدعاء للاحتياط بعد حرب غزة.
تلحظ الخطة الأميركية في طياتها بالطبع، انسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، وترسيم الحدود البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة دون مزارع شبعا وتلال كفر شوبا.
وبدا واضحاً منذ الساعات والأيام الأولى لحرب غزة جنوباً، كما لجبهة المشاغلة والمساندة شمالاً، أن إيران لن تحارب نيابة عن الفلسطينيين وحماس، كما قال المرشد على خامنئى مباشرة وصراحة للشهيد اسماعيل هنية في اللقاء الشهير نهاية تشرين أول/أكتوبر 2023، ولا عن حزب الله ولبنان كون العكس هو الصحيح والواقع في عقيدة قاسم سليماني، التي تبنتها إيران بشكل رسمي منذ ثلاثة عقود تقريباً، وبعد تجرع السم إثر الهزيمة أمام العراق في حرب الخليج الاولى.
في الأخير، وباختصار، من الجنوب – غزة، الى الشمال – لبنان، لا بد من التكاتف والتوحد لعدم تحويل جنوب لبنان إلى شمال غزة، والضاحية أو بيروت كلها إلى غزة أخرى، ولبنانياً لا بد من السعي الجماعي لوقف العدوان مع استخلاص العبر ورؤية وفهم خلفيات وحيثيات وتداعيات التماهي والتواطؤ الأميركي-الإيراني، وتنفيذ القرار 1701، والتوجه الجاد نحو إعادة بناء التوافق الوطني والاحتكام الى الدستور والمسارعة بإنهاء الفراغ الرئاسي وتشكيل حكومة ميثاقية كاملة الصلاحيات والمهام لإطلاق ورشة التعافي وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها.
بالتوازي، نحن بجاجة إلى سيرورة مشابهة بغزة لجهة وقف العدوان والتوافق على حكومة وحدة وطنية تنهي الانقسام وتعيد إعمار غزة وتجري الحزمة الانتخابية الكاملة ولو بعد حين، على قاعدة أفق سياسي جدي وصلب مدعوم عربياً وإقليمياً ودولياً ويقود نحو تقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة والاستقلال.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها