بدت عملية جيش الاحتلال الإسرائيلى شمال غزة، والتي دخلت أسبوعها الرابع، وكأنها مزيجاً من خطة الجنرالات والعمليات العسكرية الكلاسيكية التي شهدناها خلال الحرب، طوال أكثر من عام، كما أقر واضع الخطة نفسه الجنرال غيورا أيلاند. إلا أن المفارقة أو المعطى الأهم هنا، أن مجريات الأمور على الأرض أثبتت استحالة تنفيذ الخطة في ظل وجود 400 ألف فلسطيني في المنطقة المستهدفة، إضافة إلى تعقيدات سياسية وميدانية تتعلق بالمشهد العام في غزة وفلسطين والمنطقة، ولا يقل عما سبق أهمية، عدم تبنيها رسمياً من قبل قيادة الجيش الإسرائيلي، كما تراجع أيلاند نفسه عنها، ودعوته إلى السعي لاستعادة الأسرى وإنهاء الحرب، ولو ضمن شروط ورؤية بدت متناقضة تماماً مع خطته الأصلية.
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن الجنرال المتقاعد غيورا أيلاند كان مسؤولًا سابقاً عن شعبة التخطيط في جيش الاحتلال، ويُعتبر الآن من أهم العقول الاستراتيجية في الدولة العبرية - رفقة غادي إيزنكوت وعاموس يدلين وعاموس جلعاد وقلائل آخرين - وصاحب نظرية توسيع غزة باتجاه شبه جزيرة سيناء، ضمن دفعها جنوباً نحو مصر مع تعويض القاهرة بنسبة مماثلة من الأراضي في صحراء النقب ومساعدات اقتصادية ضخمة ومشاريع عملاقة لخدمة الغزيين في سيناء، ونقل المشهد شمالاً عبر رعاية أردنية للأوضاع في الضفة الغربية، بعد ضم نصفها تقريباً ومقدراتها وثرواتها الطبيعية المتمثلة بمنابع المياه وغور الأردن وسلسلة الجبال الغربية الاستراتيجية، وذلك ضمن تصفية نهائية للقضية الفلسطينية.
أما خطته الأخيرة، والتي سميت خطة الجنرالات، إثر دعم عسكريين متقاعدين كُثر لها، فتم تقديمها باعتبارها الوصفة الأخيرة لتحقيق الانتصار المطلق "المستحيل" على حماس وفصائل المقاومة، عبر عزل شمال غزة، وتهجير أهله قسرياً ضمن مهلة محددة لأسبوع، ومنع الغذاء والماء والدواء عنهم وإخراج المستشفيات عن الخدمة ومهاجمة وتدمير مراكز الإيواء واعتبار كل من تبقي من المقاتلتين والمقاومين لتبرر قتلهم، ومن ثم نقل التجربة - النموذج إلى الوسط والجنوب مع هجرة بشكل معاكس هذه المرة - من الجنوب إلى الشمال - إلى أن يتم القضاء على كافة المقاتلين ومن ثم الانسحاب واليقين من تلاشي احتمال تهديد من غزة لإسرائيل والتحكّم بالمشهد السياسي التام بها بعد ذلك.
في السياق، تجب الإشارة كذلك إلى أن غيورا أيلاند ليس من المسيحانيين الخلاصين - أتباع الوزيرين المتطرفين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش - بل اعتُبر دوماً من صلب المؤسسة العسكرية التقليدية في إسرائيل، بينما نالت خطته تأييد جنرالات كثر من اتجاهات متعددة، ولكن لم يتم تبنيها رسمياً من المؤسسة العسكرية المتحفظة حتى مع تأييد ضمني لها داخل صفوف الجيش نفسه، علماً أن المؤسسة لا تزال تعتقد أنه من الضرورة بمكان إنهاء الحرب، وتقديم تنازلات لاستعادة الأسرى، بعدما استنفذ الخيار العسكري نفسه، وتحقيق جل أهداف الحرب بما فيها تلك غير المعلنة المتعلقة بإيقاع نكبة في غزة وجعلها غير قابلة للحياة، وبالتالي لم تعد بوضع يسمح لها بتهديد إسرائيل وتشكيل خطر جدي عليها بالمعنى العسكري، ولكن مع بقاء المعضلة السياسية الاستراتيجية المتعلقة بكيفية التعاطي مع القضية والصراع نفسه، ونضال الشعب الفلسطيني العنيد لتحقيق أماله الوطنية المشروعة، وهو أمر كان ولا يزال برسم السياسيين الإسرائيليين حتى مع تهربهم المنهجي منه، ويفسر من جهة أخرى، حديث وزير الأمن يوآف غالانت الأخير عن استحالة تحقيق الأهداف كلها بالوسائل العسكرية، وإن ثمة قيوداً للقوة أيضاً.
للتذكير أيضاً، كانت إسرائيل قد بدأت عمليتها العسكرية في شمال غزة، أوائل تشرين أول/ أكتوبر الجاري، والتي بدت حسب توصيف غيورا أيلاند نفسه، مزيجاً من خطة الجنرالات، والعملية العسكرىة والتوغلات والاجتياحات العسكرية التقليدية، ضمن المرحلة الثالثة من الحرب، والمتضمنة القضاء على جيوب المقاومة أو جز العشب - مصطلح دموي وعنصري - وفق نقل نموذج جريمة جنين، طولكرم ونابلس، إلى جباليا، بيت لاهيا وبيت حانون.
منذ اللحظة الأولى بدت العملية دون هدف عسكري واضح مع تضاؤل القتال والاصطدام المباشر مع المقاتلين حيث يحدث ذلك ولكن بشكل متفرق ومتباعد، ولكنها هدفت إلى تحقيق سلة أهداف متنوعة تتضمن توسيع المنطقة العازلة داخل القطاع، وإبعاد مدى الصواريخ الفلسطينية عن المدن والتجمعات الاستيطانية الإسرائيلية، وتدمير الشمال وتهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين قسرياً، وقبل ذلك وبعده، كسب الوقت، وإطالة الحرب لأبعد مدىً زمني ممكن بما يخدم مصالح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو السياسية والحزبية، ويكفل بقائه في السلطة، خصوصاً مع رفض حلفائه الأكثر تطرفاً لأي تسوية أو نهاية للحرب، ستتضمن بالضرورة صفقة تبادل أسرى وتفاهم ما مع الفلسطينيين والدول العربية، بل والدعوة العلنية لعودة الاستيطان في غزة، وهو هدف يبدو خيالياً وشبه مستحيل تماماً كما خطط وأفكار تحالف بن غفير وسموتريتش، تجاه حسم الصراع.
وقد واجهت العملية تعقيدات وانتقادات لعدة أسباب سياسية وعسكرية وميدانية، ومع التهجير القسري للفلسطينيين خلال أربعة أسابيع، إلا إن أكثر من نصفهم لا يزال في المنطقة، ما يعني أنها إسرائيل بحاجة إلى مدى زمني طويل ومفتوح لتطبيقها في نصف الشمال فقط، محافظات: جباليا، بيت لاهيا وبيت حانون.
في التعقيدات أيضاً، هناك تدخل الولايات المتحدة عبر إرسال مذكرة بدت وكأنها سقف زمني. شهر لإنهاء العملية ورفض تنفيذ خطة الجنرالات المستحيلة أصلاً، وضرورة تحسين الأوضاع الإنسانية للنازحين في الوسط والجنوب، والتوقف عن خطوات شيطنة والتضييق ومنع وكالة الأونروا من العمل في الأراضي المحتلة عام 1967، بما فيها القدس وغزة بالطبع (الكنيست أقرّ قانوناً يحظر عمل الأونروا).
بموازاة ذلك، جرى رفع الصوت عالياً من المنظمات الدولية الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، وهو ما وضع الملف جدياً على جدول الاعمال السياسي والإعلامي، وفاقم من عزلة إسرائيل والضغوط عليها لوقف العملية.
بناءً على المعطيات السابقة، طوّر أيلاند ووضع خطة أو أفكار جديدة، خصوصاً بعد نجاح جيش الاحتلال في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيي السنوار، والذي بدا وكأنه أسدل الستار على الحرب برمتها، ولو نظرياً، مع تزايد الكلفة والأثمان على المكاسب -حسب تعبير أيلاند- وبالتالي ضرورة إنهاء الحرب، واستعادة الأسرى، واشتراط إعادة الإعمار الضخمة في غزة، بإزاحة حركة حماس من السلطة.
في العموم، ثمة رفض فلسطيني "محق" رسمياً وشعبياً، لخطة الجنرالات شبه الميتة سريرياً، والعملية العبثية والدموية والإجرامية شمال غزة، لكن للأسف دون وضع خطة أو رؤيا فلسطينية مناقضة يُفترض أن تضمن تصور وطني جامع لكيفية لإنهاء الحرب واليوم التالي في غزة، وطلب الدعم العربي والدولي -لا العكس كما يحدث حالياً- وبما يتلاءم مع التضحيات الهائلة والجسام للمواطنين الفلسطينيين في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية، ليس فقط في غزة، وإنما في الضفة الغربية أيضاً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها