صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء الأربعاء الماضي، وبأغلبية كبيرة لصالح مشروع قرار تقدمت به دولة فلسطين، لتحديد مهلة زمنية من 12 شهراً، لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والمستمر منذ حزيران/يونيو 1967، تنفيذاً لفتوى محكمة العدل الدولية التي اعتبرت الاحتلال غير شرعي ويجب إنهائه في أقرب وقت ممكن.
علماً أن قرار محكمة العدل يحمل في طياته دلالات سياسية واستراتيجية مهمة، تظهر تقبّل العالم للرواية الفلسطينية ورفض آخر احتلال في العصر الحديث. ومن جهة أخرى، يلقي تبعات كبيرة على عاتق الفلسطينيين والعرب لوضعه على جدول الأعمال الإقليمي والدولي، وإجبار الاحتلال على الانصياع والتنفيذ.
إذن القرار الذي نال كما العادة أغلبية كبيرة تقارب ثلثي أعضاء الجمعية العامة، تقدمت به دولة فلسطين لأول مرة بعدما تم منحها حقوق وامتيازات إضافية في شهر أيار/مايو الماضي، بما في ذلك الحق بتقديم اقتراحات ومشاريع قرارات أمام الجمعية العامة.
مبدئياً ومنهجياً، يعبّر القرار عن التقبّل الدولي الواسع للرواية والقضية العادلة، ودعم حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتحقيق أماله الوطنية المشروعة في السيادة والاستقلال، وبالمقابل عزلة الدولة العبرية ورفض روايتها وسرديتها، وعجز رعاتها وتحديداً الولايات المتحدة عن حمايتها وتوفير المظلة السياسية والدبلوماسية والقانونية لها، مع افتقادها إلى حق النقص (فيتو) في بالجمعية العامة، حيث ستتساوى الأصوات على عكس الحال في مجلس الأمن.
كما يُعتبر القرار تاريخياً كونه أول مشروع فلسطيني في الأمم المتحدة، واستند إلى فتوى المحكمة العدل الدولية التاريخية وتوصيفها القانوني للاحتلال في الأراضي المحتلة عام 1967، وإنه غير شرعي، ولا بد من إنهائه في أقرب وقت ممكن.
وللقرار التاريخي دلالات وتداعيات استراتيجية مهمة، أهمها تجريم المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية، بما فيها القدس، كما الحق الفلسطيني بالتعويض عن الاحتلال الذي استمر عقود وحصدت الدولة العبرية من ورائه مكاسب اقتصادية ضخمة بمئات مليارات الدولارات، ناهيك عن المبدأ أو القاعدة نفسها بعدم قانونية الاحتلال وشرعيته لمجرد منعه الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره ونيل حقوقه المشروعة الأخرى في السيادة والاستقلال والنهوض والنمو، واستغلاله ثرواته المنصوص عليها في القوانين والمواثيق الدولية ذات الصلة.
الخطوة نوعية ومهمة، كذلك كون الحديث يجري عن جهد سياسي ومؤسساتي ممنهج ومنسق عربياً وأوروبياً ودولياً لرفع مكانة فلسطين إلى دولة كاملة العضوية بالأمم المتحدة، وحثّ مزيد من الدول على الاعتراف بها، خصوصاً تلك المتنفذة المنتمية لما يُعرف بالمجتمع الدولي -الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين المركزيين وكندا واستراليا واليابان وكوريا، مع انقسام وتشقق واضح فيها وتقبل الغالبية للحق الفلسطيني وخاصة مع الضغوط الشعبية المتصاعدة الرافضة لدعم وتغطية آخر احتلال بالعالم.
التطور اللافت جداً في نيويورك، تزامن مع تطور مهم آخر تمثّل بإعلان مدريد الصادر عن اجتماع اللجنة الوزارية العربية والإسلامية المنبثقة عن قمة الرياض في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، الخاصة بحرب غزة، مع وزير خارجية إسبانيا خوسيه مانويل ألباريس في مدريد، وآخر موسع مع وزراء خارجية ومسؤولين كبار بدول أوروبية اعترفت أخيراً بالدولة الفلسطينية كالنرويج وإيرلندا وسلوفينيا.
بيان أو إعلان، مدريد قدّم خارطة طريق واضحة وجدية وإيجابية جداً تضمنت العمل المشترك في الأمم المتحدة، بما في ذلك دعم مشروع للقرار الأخير بالجمعية العامة في فلسطين، كما عقد مؤتمر دولي للسلام من أجل العمل على انهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره ونيل حقوق وتحقيق آماله الوطنية المشروعة.
رمزياً وتاريخياً، بدا البيان كتصحيح لما جرى في العاصمة الإسبانية قبل ثلاثة عقود، مع إطلاق عملية مدريد، باعتبارها تسوية جماعية وأممية للتوصل إلى حلّ للصراع في فلسطين وفق الشرعية الدولية وقراراتها، وهي العملية التي قبلها الفلسطينيون والعرب على علاّتها قبل التحوّل إلى مسار أوسلو، واحتكار الأميركيين للعملية كلها، وبالتالي وصولها غير المفاجئ إلى طريق مسدود، مع استغلال إسرائيل وبدعم أميركي لسيرورة فرض الحقائق على الأرض بقوة الاحتلال والاستيطان، وإفراغ أي مفاوضات من جدواها.
في السياق نفسه، شهدنا خلال الأيام الماضية مواقف لافتة جداً للسعودية والإمارات، مع تأكيد الرياض على لسان ولي العهد محمد بن سلمان، أن لا تطبيع مع إسرائيل إلا بعد إقامة دولة فلسطينية. بينما أكدت الإمارات بوضوح على لسان وزير خارجيتها عبد الله بن زايد أن لا انخراط سياسي واقتصادي وربما أمني في غزة، وما يُعرف بسيناريو اليوم التالي للحرب، إلا بضمان إقامة دولة فلسطينية، وتعبيد الطريق وخلق أفق جدي، لا رجعة عنه نحوها.
قبل ذلك كان تحذير لرئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، من مؤامرة واضحة لتصفية القضية نهائياً، وأن الفلسطينيين وحدهم قادرين على التصدي لها وإفشالها تماماً كما حصل قبل سنوات قليلة مع صفقة القرن لدونالد ترامب.
هي المؤامرة التي باتت واضحة للعيان مع خطة إسرائيلية دموية وسوريالية، تتمثل بإعادة الاحتلال والإدارة المدنية لغزةن ونقل نموذج هذه الأخيرة قبل الحرب إلى الضفة الغربية.
الحقائق والمعطيات والمستجدات السابقة، تؤكد الرعاية العربية والإسلامية والدولية للقضية العادلة وتقبل ودعم الرواية الفلسطينية، ومن جهة أخرى تضاعف المسؤولية الملقاة على عاتق الفلسطينيين لمواصلة الجهد على المستويات كافة بما في ذلك العمل علي إنهاء حرب غزة بأسرع وقت ممكن، وبالضرورة إنهاء الانقسام السياسي والجغرافي وتشكيل قيادة موحدة تعتمد استراتيجية المقاومة بكافة أشكالها، كي لا تذهب التضحيات الشعبية الهائلة في غزة والضفة والشتات أيضاً، هدراً.
المهمة الملقاة على عاتقنا لإنهاء الاحتلال تتضمن كذلك متابعة قضية جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، وحثّ مزيد من الدول على الانضمام إليها وعدم تجاهل ما يجري في محفل قضائي آخر -الجنائية الدولية، وهو مهم جداً أيضاً وستكون له تبعات سياسية وقانونية على الاحتلال وقادته.
يجب الانتباه كذلك الى حقيقة -قاعدة إن الحسم النهائي للاحتلال سيكون بميادين الرأي العام العالمي- على أهمية المحاكم والمسار القضائي، في السياقات الدبلوماسية والسياسية والإعلامية والاقتصادية والثقافية والفكرية والفنية والسينمائية والرياضية، ما يعزز الحاجة إلى مرجعية فلسطينية وإطار قيادي أعلى مصداق ومحل ثقة وبالضرورة شاب حيوي ومنتخب، خالي ونقي من الاستبداد والفساد.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها