لا يبدو قرار رفع الحجز الاحتياطي عن أموال شركة "محطة حاويات اللاذقية الدولية"، الصادر قبل أيام، ذا قيمة في حد ذاته، إلا إذا تم النظر إليه بوصفه استكمالاً لتطور لافت، حدث في صيف العام 2020، ومرّ سهواً في معظم وسائل الإعلام المحلية السورية، وتمثّل في تمديد حكومة النظام لعقد استثمار محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية من جانب الشركة المشار إليها أعلاه، بعد أشهر على انتهاء العقد في تشرين الأول/أكتوبر 2019.
هذا التأخير، بين موعد انتهاء العقد، وبين قرار تمديده ل5 سنوات أخرى، يرجع لسببين: الأول، حسم الصراع الإيراني-الروسي في أروقة نظام الأسد، لصالح الروس، في عدم تحقيق رغبة طهران التي أبدتها علناً في ربيع العام 2019، باستثمار مرفأ اللاذقية. حينها، كان رأس النظام، بشار الأسد، بصدد الرضوخ للضغوط الإيرانية، خلال زيارة مثيرة للجدل قام بها إلى طهران، في ربيع ذلك العام، والتقى خلالها المرشد علي خامنئي. لكن الامتعاض الروسي، الذي أشيع علناً حينها، أعطى ثماره لاحقاً، وأفقد الإيرانيين موطئ القدم المأمول على الساحل السوري، الذي تنظر إليه موسكو، بوصفه منطقة نفوذ خاصة بها.
أما السبب الثاني، لتمديد عقد الاستثمار مع شركة "محطة حاويات اللاذقية الدولية"، فهو رفض أصحاب الشركة، التنازل عن حقهم في استغلال مبدأ "القوة القاهرة"، لتبرير استمرارهم في استثمار محطة الحاويات. وهنا نجد تفصيلاً آخر، يتعلق بإصرار برجوازيين سوريين على عدم خسارة استثماراتهم في بلادهم، ربما رهاناً منهم على آفاق تسوية تقترب، وحركة إعادة إعمار قد تأتي في وقت قريب، بعد عقدٍ من الخسائر والنفي الاختياري خارج سوريا.
فشركة "محطة حاويات اللاذقية"، التي كانت من أولى تجارب "التشاركية" بين القطاعين العام والخاص في سوريا، في نهاية العقد الأول من حكم بشار الأسد، مثّلت شراكة نوعية في حينها، بين مجموعة "CMA CGM"، ثالث أكبر شركة في العالم بمجال النقل البحري والخدمات اللوجستية، التي كان يقودها رجل الأعمال الفرنسي-اللبناني، من أصول سوريّة، الراحل جاك سعادة، وشركة "سوريا القابضة" التي تمثّل استثمارات نخبة من رجال الأعمال السوريين المقيمين والمغتربين، كان يقودهم حينها، هيثم جود.
وأما وجه النوعية في هذه الشراكة، فكان أنها مثّلت حينها إصراراً من جانب برجوازية سورية-لاذقانية-مهاجرة ومحلية، على الاستثمار في اللاذقية. المدينة التي ينحدر منها والد جاك سعادة، والتي ينحدر منها، هيثم جود، أيضاً. هذا الإصرار، رغم خبرة "آل سعادة" المريرة مع الاستثمار في سوريا -حيث خسرت العائلة معظم أملاكها في حملات التأميم بالخمسينات والستينات من القرن الفائت- سرعان ما تلقى ضربة موجعة مع بدء أحداث الثورة السورية عام 2011، التي اندلعت بعد أشهر قليلة فقط، من إعلان بدء العمل في محطة حاويات اللاذقية، في احتفالٍ ضخم، حضره جاك سعادة وهيثم جود، ونخبة من المستثمرين السوريين، في حينها. فالحل الأمني والعسكري الذي اعتمده النظام ضد الحراك الثوري، هوى بالقيمة الاستثمارية لمحطة الحاويات في المرفأ، بعد أن أصبح الطريقان الدوليان إم-4 وإم-5، اللذان يمثلان شريان حركة النقل بين مرفأ اللاذقية، وكل من العراق شرقاً، والخليج جنوباً، غير آمنَين لحركة الترانزيت.
وعند الحيثية الأخيرة، يتطلب الأمر وقفة للتوضيح. فتأمين حركة النقل والترانزيت في الطريقين الدوليين إم-4 وإم-5، مثّل محوراً رئيسياً في استراتيجية روسيا في المشهد العسكري والسياسي السوري، خلال العامين الأخيرين. فهو أبرز سبب دفع روسيا لدعم هجمات النظام العسكرية، بإسناد برّي إيراني، على إدلب، ومن ثم الاتفاق مع تركيا في اتفاق "سوتشي" ربيع العام 2020، والذي ينص بصورة رئيسية، على تأمين حركة النقل على هذين الطريقين على تخوم إدلب. وهو السبب الرئيس الذي يدفع روسيا للبحث عن سبل للتفاهم مع تركيا أيضاً، لتأمين الطريق الدولي المار عبر الجزيرة السورية، بالقرب من عين عيسى، التي شهدت توتراً عسكرياً، منذ مدّة قصيرة.
وهكذا تراهن موسكو على أن تكون المستفيد الأبرز من هذه الشرايين في التجارة الدولية، بعد إحيائها. هذا الرهان تضارب مع طموح إيراني، في أن تكون طهران هي صاحبة اليد الطولى، في إرث شرايين الترانزيت بسوريا، علّها تكون حجر أساس في مشروع الصين الطموح، "طريق الحرير الجديد"، الذي تشكل سواحل المتوسط إحدى أبرز واجهاته المأمولة.
هذا التضارب في المصالح الروسية-الإيرانية، سُوّي لصالح موسكو، أخيراً، والتي تجنبت اقتناص استثمار مرفأ اللاذقية أيضاً، ربما تجنباً لاستفزاز إيران، بعد أن اقتنصت استثمار مرفأ طرطوس، في عقدٍ لمدة 49 عاماً. لكن موسكو نجحت في حرمان إيران من هذا الاستثمار، وتركه لجهة محايدة، تمثل شراكة بين برجوازية سورية مُهجّرة، وأخرى فرنسية من أصول سورية. وعند هذه الأخيرة، تتضح حيثية أخرى، تساعدنا أكثر على الإحاطة بالمشهد. فوريث الراحل جاك سعادة، في إدارة مجموعته العملاقة، نجله رودولف، الذي يحمل اسم جدّه المستثمر العتيق في اللاذقية، كان عضواً في وفد اللبنانيين-الفرنسيين الذي رافق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في زيارته الشهيرة إلى لبنان عقب انفجار مرفأ بيروت، في الصيف المنصرم. رودولف، الذي ورث علاقات والده المميزة مع النخبة السياسية الفرنسية، يضع عينه على أكثر من مرفأ في شرق المتوسط. وفيما يرفض التزحزح عن مرفأ اللاذقية، على الأقل للسنوات الخمس القادمة، يسعى لاقتناص استثمار محطة الحاويات في مرفأ بيروت، بعد أن نجح في توقيع عقدٍ لاعتماد مرفأ طرابلس، كمحطة رئيسية لمجموعته للنقل البحري.
وفيما تستعر المنافسة بين قوى إقليمية ودولية على موانئ شرق المتوسط، يبدو استمرار مجموعة "آل سعادة" CMA CGM لخمس سنوات أخرى في اللاذقية، وكأنه موطئ قدم فرنسي، على الساحل السوري، ترحب به موسكو، علّه يكون خطوة أولى لجرّ الدول الأوروبية إلى الاستثمار في إعادة إعمار سوريا.
أما إيران، فلم يكن لديها خيار آخر، سوى التخلي مبدئياً عن مرفأ اللاذقية -حلمها لربط "هلالها الشيعي" بالساحل السوري- ربما مؤقتاً، تجنباً لضربات عسكرية إسرائيلية قد تطال المرفأ ذاته، إن استثمرته إيران، وفق ما صرّح به مسؤولون إسرائيليون بصورة شبه مباشرة، خلال العام 2019، بذريعة أن الحرس الثوري الإيراني، سيستثمر المرفأ في نقل الأسلحة وتجارتها.
وهكذا يبدو، أن هذا الحدث، رغم تعقيداته، أحد الأحداث النادرة، التي تنتصر فيها البرجوازية السورية المُهجّرة، على فساد ومحسوبية نظام الأسد، وبيعه لمقدرات البلاد، لداعميه الخارجيين، وذلك عبر استغلال التناقضات بين أولئك الداعميين أنفسهم، لفرض موطئ قدم لتلك البرجوازية في بلدها، والذي هو حقّ أصيل من حقوقها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها