في نهاية أيلول/سبتمبر الفائت، وفيما كانت موجة نزوح السوريين واللبنانيين إلى سوريا تتصاعد، والتصعيد العسكري الإسرائيلي على لبنان يتفاقم، أطلق عضوٌ في غرفة تجارة دمشق تصريحاً يعبّر عن الاسترخاء في دولة أدمنت الأزمات، حتى باتت لا تعبأ بها، ولا تتخذ أي إجراءات استباقية حيال المرتقب منها.
يومها، قال أحد ممثلي التجار بالعاصمة، ما مفاده، إن حجم الوافدين من لبنان لا يعد كبيراً بالنسبة للسوريين "شعباً وتجاراً"، وأن سوريا تمتلك مخزوناً جيداً من السلع والمواد الغذائية الأساسية في المستودعات، مستبعداً أن يتسبب النزوح إلى سوريا، بأي أزمة. لكن، كي ننصف الرجل، فقد طالب عموم التجار باتخاذ خطوات استباقية بغرض ترميم المخزونات بشكل أقوى في الفترة المقبلة. وكان من الواضح، في تصريحه، أنه قصد فترة أطول من فترة الأسبوعين اللذين كانا الفارق بين توقيت كلامه، وبين جلاء غبار الأسواق عن موجة غلاء نوعية في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
وفيما عمّت موجة الغلاء عموم السلع الغذائية، ووصلت في بعض الحالات إلى نسبة ارتفاع بمقدار 35%، اكتظت قائمة الأسباب بعوامل موضوعية يصعب تجنبها، وأخرى هي صنيعة الإدارة "اللارشيدة" من جانب السلطات المعنية.
ومن بين الصنف الأول من الأسباب، تندرج الآثار التضخمية التي كانت متوقعة جراء حركة الوافدين إلى سوريا، وزيادة الطلب الناجمة عن ذلك. تُضاف إليها، الانعكاسات الاقتصادية المترتبة على التصعيد العسكري الإسرائيلي في لبنان، والذي طال بعض المعابر الحدودية، مما عقّد حركة النقل "المشروع" للبضائع، وضاعف المسافة اللازمة لنقلها نحو 4 أضعاف، مما زاد كلفة الشحن التجاري البري بين لبنان وسوريا، بنحو 40%، وفق بعض المصادر. ولم تسلم المعابر غير الشرعية من الاستهداف، مما عقّد عمليات التهريب، رغم استمرارها. لكن كلفتها باتت أكبر.
وفيما يمكن الإقرار بموضوعية العامل الأخير، فإن العامل التالي الناجم عنه، يُعد من مظاهر "الدولة الفاشلة". ويتمثّل في زيادة عدد الحواجز العسكرية التي ستعبرها شاحنات نقل البضائع داخل الأراضي السورية، نتيجة تغيّر الطرق وطول المسافة، وبالتالي زيادة الإتاوات المدفوعة على تلك الحواجز، وتحميل المبالغ المُضافة على كاهل المستهلك النهائي.
العوامل السابقة أُضيفت إلى عامل روتيني دائم التكرار، لكنه فاقم الأزمة الراهنة بصورة كبيرة. فنقص توريدات المشتقات النفطية، والذي كان قائماً منذ منتصف الشهر الفائت، أصبح أكثر أذىً للاقتصاد عموماً، ولحركة النقل خصوصاً، مع تعقّد عمليات تهريب بعض أصناف المحروقات من لبنان. وكان مسؤولون بحكومة النظام قد وعدوا بحلٍ قريب لأزمة نقص المحروقات منذ نهاية الشهر الفائت. لكن الأسبوعين الأخيرين كشفا عن مدى عجز السلطات المعنية، وعن مقدار غياب المصداقية في وعودها. وأدت أزمة الوقود هذه إلى ارتفاع تكاليف الشحن بين المحافظات السورية بنحو 30%.
ومع مخاوف السوريين من امتداد التصعيد العسكري إلى أراضيهم على نطاق واسع، تشكّلت حركة تحوّط –تعد طبيعية في هكذا ظروف- دفعت الناس إلى شراء كميات من السلع أكبر من المعتاد، وتخزينها. وهو ما تسبب بخلق طلب إضافي انعكس سريعاً على الأسعار.
في هكذا أجواء، ازدادت الاتهامات للتجار بالمسؤولية عن جانب كبير من هذه الأزمة. اتهامات كان يمكن رصدها في الأوساط الشعبية، جراء الفروقات الكبيرة في الأسعار بين المحلات بالمنطقة الواحدة. وهي اتهامات تطال صغار التجار، في هذه الحالة. أما تلك الاتهامات التي وردت في الإعلام الموالي، فطالت عموم التجار. وتجد هذه الاتهامات ما يبررها، في ضوء حديث أحد ممثلي التجار قبل أسبوعين، عن توافر مخزونات كافية من الغذائيات. مما يجعل الاحتكار واحداً من أبرز أسباب الأزمة الراهنة، في ظل غياب كامل لأجهزة الرقابة الحكومية، التي عادةً، وإن ظهرت في الأسواق، تكون غايتها ابتزاز التجار وأخذ الرشاوى منهم للتغاضي عن انفلات الأسعار.
وإن أردنا أن نشمل بعرضنا أسباب أخرى أضيق أثراً ونطاقاً، يمكن الإشارة إلى ارتفاع تكاليف الشحن الدولي، والتأمين على عمليات الشحن، جراء التوترات في المنطقة.. إلى جانب ارتفاع الأسعار العالمية لبعض أصناف السلع الغذائية، كما في حالة الزيوت النباتية.
وفي حال استمر التصعيد العسكري الإسرائيلي في لبنان، لفترة طويلة، فإن أبرز المستفيدين المتوقعين، هم تجار البضائع التركية، التي بدأت تظهر بصورة أكثر وضوحاً من المعتاد، في بعض أسواق مناطق سيطرة النظام، كما في حالة البطاطا والثوم والفروج ذي المنشأ التركي. ومع ضعف القدرة الشرائية، قد نجد بضائع تركية، نخب ثالث، رديئة النوعية، لكن لها سوقها.
وفي الختام، تُظهِر القائمة الطويلة لأسباب موجة الغلاء النوعية الأخيرة في سوريا، مدى غياب التخطيط والفشل الحكومي في استباق أزمات مرتقبة ومرئية حتى للعوام من الناس. إلى جانب مقدار ضعف التنسيق وعدم توافر المعلومة الدقيقة حتى في أوساط ممثلي التجار –هذا لو افترضنا حسن النيّة ولم نركن لتهمة الاحتكار-. هذا، من دون أن ننسى أثر إعلاء "العسكرة" وحماية مصادر دخل العاملين فيها، سواء كان ذلك بقصد، أو رغماً عن المعنيين وأصحاب القرار في رأس هرم النظام.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها