كان السوريون يظنون أن أزمة المحروقات ونقص بعض المواد التموينية هي أعلى درجات الذل التي سيصلون إليها في عهد بشار الأسد، بعد تمضية الكثير من وقتهم ضمن طوابير الانتظار المذلة.
وبعد انتشار كورونا كان البعض يتخوف من تداعيات الجائحة العالمية؛ لكن الأزمة التي تعيشها سوريا اليوم، والتي تمثلت بفقدان الأدوية تتخطى ما سبقها في السوء واستمرارها ينذر بعواقب قد تكون نتائجها وخيمة.
ويشمل قطاع تجارة الأدوية في سوريا ثلاثة أنواع من البضائع، وهي: الأدوية الوطنية التي تصنعها معامل سورية في الداخل، وقد اضطر معظمها إلى التوقف عن العمل بعد التفاوت الكبير بين سعر صرف الدولار الرسمي الذي يفرضه مصرف سوريا المركزي وسعر الصرف الحقيقي، الذي تقوم المعامل بشراء موادها الأولية وفقاً له، وما يترتب عليه من خسائر لأصحاب المعامل.
وقد جرى بالفعل إغلاق اثنين من أكبر معامل الأدوية في سوريا الأسبوع الماضي بحسب مصدر خاص لـ"المدن"، وهما: معمل "يونيفارما" ومعمل "آلترا ميديكا". وبات المصدر الوحيد للأدوية في السوق السورية عبارة عن مستودعات صغيرة، غالبية مخزونها هو من الأدوية قليلة الاستخدام. وبات أصحاب هذه المستودعات يرغمون الصيادلة على شراء كميات كبيرة من الأدوية المتوافرة التي لا يحتاجونها مقابل تأمين القليل من الأدوية الضرورية، التي يستخدمها الناس بشكل يومي، مثل: "البراسيتامول" و"الاسبرين" وغيرهما.
النوع الثاني، هو الأدوية الأجنبية المستوردة بشكل نظامي، والتي تشمل المتتمات الغذائية وحليب الأطفال وبعض الأدوية التي لا يتم تصنيع معادلات لها في المعامل السورية. وبحسب مصدر"المدن" الذي يعمل ضمن أحد مستودعات الأدوية، فإن هذا الصنف من الأدوية متوفر في المستودعات، لكن يتم تطبيق آلية بيعها للصيدليات، إذ لا يقوم المستودع ببيع الأدوية الأساسية والمطلوبة إلا ضمن طلبية تشمل الكثير من الأدوية الكاسدة، والتي شارفت صلاحيتها على الانتهاء.
هذه ليست المشكلة الوحيدة في هذا الصنف، بل إن المشكلة الرئيسية الثانية أن وزارة الصحة منعت أصحاب المستودعات من رفع سعر البضائع الضرورية كحليب الأطفال بما يتوافق مع سعره الحقيقي عند استيراده، وطالبوهم ببيعه وفقاً لسعر الدولار في المصرف المركزي، وهو ما أدى إلى توقف استيراد هذه المواد والتحفظ على ما تبقى منها في المستودعات خوفاً من خسارات كبيرة قد تؤدي الى إفلاس أصحاب المستودعات؛ والتي بدأ بعضها بالإغلاق فعلاً.
النوع الثالث، هو الأدوية الأجنبية المهربة، وهي بحسب مصدر "المدن" متوافرة، لكن تجارتها باتت خاسرة، إذ أن البيع يتم وفقاً لسعر الدولار في تاريخه، لكن الثمن سيكون بالليرة السورية التي ستفقد جزءاً كبيراً من قيمتها في اليوم التالي، مما جعل عدداً كبيراً من التجار يتحفظون على بيعها ويفضلون تخزينها حتى وقت إستقرار الدولار، خوفاً من خسائر مالية كبيرة قد تؤدي إلى إفلاسهم.
وبسبب هذه التطورات والتقلبات العنيفة بالسوق، وبسبب عدم قدرة أصحاب المعامل والمستودعات والصيدليات على احتواء الأزمة التي قد تؤدي لإفلاسهم إذا ما استمرت لأسابيع قليلة؛ يشهد سوق الدواء السوري الأزمة الأكبر في تاريخه، مع إغلاق عدد كبير من الصيدليات، فيما يصطف الناس في طوابير طويلة أمام الصيدليات التي لم تقفل، لكن دون جدوى؛ ففي الغالب لن يعثروا في هذه الصيدليات سوى على الأدوية الكاسدة ونادرة الاستخدام.
وفي حال كان الحظ حليفاً للمواطن اللاهث وراء حاجاته الدوائية وعثر على ما يريده، فإنه سيصطدم بارتفاع الأسعار؛ إذ يصل ثمن علبة الدواء اليوم إلى ما يقارب أربعة أضعاف السعر الذي كانت عليه قبل شهرين.
وترجع حكومة النظام السوري هذه الأزمة إلى عوامل خارجية، على رأسها وباء كورونا العالمي والعقوبات الاقتصادية وقانون "قيصر"، بالإضافة إلى جشع التجار والصيادلة الذين لا يتقيدون بسعر الدواء الذي قامت الوزارة بتحديده مسبقاً. ولا تعترف الحكومة بأن الشروط التي وضعتها على تجارة الأدوية ستؤدي إلى إفلاس أصحاب المعامل والصيادلة، بسبب خرافة استقرار سعر الليرة.
وبحسب مصدر "المدن"، فإن هناك العديد من الشائعات التي تنتشر في أوساط صيادلة دمشق وتجار الأدوية، وهي أن أحد أبرز أسباب الأزمة الجديدة هو سعي النظام إلى بيع كميات كبيرة من المنتجات الدوائية الكاسدة والتي تم شراؤها من المستودعات قبل أشهر بأسعار بخسة، لأن صلاحيتها شارفت على الانتهاء؛ ويقوم النظام اليوم ببيع البضائع ذاتها للمستودعات والصيدليات بأسعار خيالية، ويقرن مبيعها بمبيع الأصناف الضرورية.
لكن تضارب الروايات هذه مع رواية الإعلام السوري التي تبرئ النظام، خلق حالة من البلبلة وزاد الاحتقان بين الناس ونتج عن ذلك بعض الحوادث الغريبة والعنيفة في الصيدليات خلال الأيام القليلة الماضية؛ وبات الصيادلة عرضة للشتم والضرب أحياناً من قبل الساخطين على ارتفاع سعر الأدوية، بجانب اتهامهم بالمسؤولية عن الأزمة وبأنهم يخبئون البضائع ليربحوا أكثر بعد أن يزداد سعرها، بحسب ما يذكر مصدر "المدن".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها