أثار الإعلان عن توقيع عقد جديد بين حكومة النظام في دمشق وإيران من أجل التنقيب عن النفط شرق سوريا، الجدل مرة أخرى حول مستقبل الوجود الإيراني في سوريا والتنافس مع الروس على الثروات والموارد الاقتصادية للبلاد.
العقد سداد للدين
وحسب وسائل إعلام إيرانية وأخرى تابعة للنظام، فإن مشروع القانون الذي ناقشته لجنة برلمانية في "مجلس الشعب السوري" يتعلق بتصديق عقد استكشاف البترول وتنميته وإنتاجه في البلوك رقم (12) في منطقة البوكمال بريف دور الزور، والموقّع مطلع العام الجاري بين النظام وإيران.
وتعقيباً على الخبر، قال وزير النفط والثروة المعدنية في حكومة النظام علي غانم، إن الاتفاق يأتي ضمن الخطة الاستراتيجية للوزارة في زيادة عمليات الحفر والاستكشاف والتنمية والتطوير وتحسين مردود الحقول النفطية والغازية، مضيفاً أن الصفقة الجديدة هي بمثابة "عقد نفطي لصالح سداد الدين الائتماني طويل الأجل".
وترتبط حكومة النظام بعقد مع إيران لتوريد المشتقات النفطية والمواد العذائية وقع للمرة الاولى عام 2013 مقابل مليار دولار، وتم تجديده ثلاث مرات بالقيمة نفسها، أعوام 2015 و2017 و2019.
ويتفق المحللون الاقتصاديون على أن النظام، وبسبب عجزه عن سداد التزاماته المالية مقابل العقد الائتماني مع إيران، قام بمنح طهران ميزات استخراج واستثمار الفوسفات سابقاً والنفط حالياً، بالإضافة إلى استثمارات في قطاع الكهرباء وغيرها من القطاعات السيادية التي باتت تتقاسمها كل من روسيا وإيران، استيفاء للديون المترتبة للدولتين على النظام.
عقد غامض
لا يوجد في منطقة البوكمال حتى اليوم أي حقول نفط مستثمرة، ويقتصر الأمر على آبار صغيرة ومحطات تجميع محدودة القدرة توقف أغلبها بعد سيطرة المعارضة، ومن ثم تنظيم داعش على المنطقة بعد عام 2012، قبل أن تصبح البوكمال مدينة خاضعة بشكل كامل لسيطرة الميليشيات الإيرانية منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2017، بعد طرد داعش منها.
ويعتقد على نطاق واسع أن طهران تولي اهتماماً كبيراً بالمدينة الواقعة على الحدود السورية-العراقية، ضمن خطتها الاستراتيجية لتأمين طريقها (الحلم)، الذي يفترض أنه سيمتد من طهران إلى المتوسط، عبر العراق، بينما تنظر إلى الاستثمارات الاقتصادية في هذه المنطقة على أنها هدف إضافي أو تحصيل حاصل.
وفي تعليقه على الإعلان عن العقد الجديد بين حكومة النظام وإيران، رأى الخبير الاقتصادي السوري أنس سالم ل"المدن"، أنه "بغض النظر عن الموقف السياسي من إيران كدولة محتلة وشريكة في قتل السوريين، وبالنظر إلى عدم إمكانية الاطلاع على تفاصيل هذا العقد، فإنه لا يمكن الحكم عليه بشكل كامل للجزم في مدى خطورته أو ما يحمله من أضرار على السيادة والأمن القومي للدولة السورية".
وأضاف سالم أنه "بسبب عجز النظام من الناحية التقنية عن القيام بعمليات التنقيب والحفر، فإنه من الطبيعي أن يلجأ إلى شركات أجنبية وتوقيع عقود شراكة معها للقيام بهذه المهمة، ولكونه منبوذاً دولياً، فإن الخيارين الوحيدين المتبقيين له هما حليفتاه روسيا وإيران. وبالنظر إلى حاجة النظام الماسة إلى مصادر الطاقة، فإن الشركات الروسية والإيرانية هما الملجأ الوحيد له من أجل استثمار حقول النفط والغاز وغيرها من الموارد في سوريا".
لكن مدى التجاوز على سيادة الدولة وحقوق الشعب في هذا العقد، يضيف سالم، لا يمكن أن يتحدد قبل الكشف عن تفاصيله، إلا أنه بمجرد حديث وزير النفط عن الدين الائتماني، فهذا يعني أن العقد سيكون بمثابة جزء من تسديد الدين الإيراني على النظام، لكن ما يجعله موضع ريبة مبدئياً، هو أنه قد يكون غطاء بالفعل لتصريف النفط الإيراني سواء في سوريا أو عبرها، للالتفاف على العقوبات الغربية والأميركية، خاصة أن منطقة البوكمال لا يوجد فيها حتى الآن مخزون نفطي مكتشف يمكن القول إنه كبير بما يكفي للاهتمام به.
تنافس أم تفاهم؟
يعتبر الإعلان عن هذا العقد الأول من نوعه بين دمشق وطهران منذ العام 2017، عندما وقع الجانبان عقداً منحت بموجبه إيران حق استخراج واستثمار مناجم الفوسفات في بادية تدمر (حقلا خنيفيس والشرقية). العقد الذي تنصل منه النظام في العام ذاته تحت ضغط روسيا، التي تمكنت في النهاية من بسط نفوذها على المنطقة، وتسليم الحقلين إلى شركاتها.
ما سبق يؤكد بشكل قاطع التنافس الروسي الإيراني على موارد سوريا الاقتصادية والسيادية، "وهو تنافس لا حيلة للنظام فيه" كما يؤكد الخبير الاقتصادي أنس سالم مرة أخرى، ويضيف بهذا الصدد "لا شك أن النظام، ورغم ضعفه أمام الصراع الروسي الإيراني على موارد الدولة وثرواتها، يحاول جاهداً إرضاء الطرفين اللذين يدين لهما بالفضل ببقائه في السلطة حتى الآن".
والواقع أن اجبار موسكو النظام على الغاء عقد مناجم الفوسفات مع إيران عام 2017، ومسارعتها في توقيع عقود الاستحواذ على المقدرات الاقتصادية الرئيسية في البلاد منذ ذلك العام، يؤكد أن عقد التنقيب عن النفط في البوكمال المعلن عنه أخيراً لم يكن ليتم لولا وجود موافقة روسية مسبقة عليه.
يعزز ذلك التوسع الروسي الذي بدأ يتضح بشكل متزايد، خلال الأشهر الماضية، في مناطق سيطرة النظام غرب نهر الفرات، والتي طالما اعتبرت مجال نفوذ إيراني خالص، حيث عمدت القوات الروسية العاملة في سوريا إلى إقامة نقاط تمركز جديدة لها هناك، وإرسال تعزيزات زادت من ثقة الروس في المنطقة، إلى الحد الذي تمكنت فيها إحدى دورياتهم من منع رتل أميركي من عبور أحد الممرات بريف الحسكة الشهر الماضي.
بالمقابل يرى البعض أن موسكو وطهران انتقلتا من مرحلة التنافس والصراع على الموارد في سوريا، إلى مرحلة التفاهم والتقاسم، وهو ما لا يمكن أن يكون قد حصل إلا بعد رضوخ إيران للشروط الروسية بهذا الصدد.
ويستند أصحاب هذا الرأي على الأنباء التي تحدثت عن منح موسكو القوات الايرانية مهبطاً في قاعدة حميميم بريف اللاذقية مؤخراً، من أجل تخديم طائرات الشحن، وهو تطور لافت، ويأتي في الوقت الذي صعدت فيه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل لهجتهما وضرباتهما أيضاً ضد التواجد الإيراني في سوريا بشكل غير مسبوق خلال الأيام الأخيرة الماضية.
مؤشر يعيد خلط أوراق هذا الملف مجدداً، لكنه يؤكد أن روسيا استطاعت أن تجير هذا التصعيد ضد إيران لإرغامها على القبول بشروطها من أجل البقاء في سوريا، أو الاستثمار فيها، بعد أن أصبحت موسكو صاحبة الصوت الأعلى، وعليه يمكن وضع عقد التنقيب على النفط بمدينة البوكمال كجائزة ترضية لإيران، لا تؤثر بحال على الخطط والمصالح الاقتصادية الروسية في سوريا وتفتح باب الانتقال من التنافس إلى التسليم بهيمنة موسكو والاستثمار تحت ظلها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها