مع فوزه الساحق في الانتخابات التمهيدية في ولاية نيفادا الصحراوية السبت الماضي، أصبح بيرني ساندرز المرشح الأوفر حظاً في الحزب الديموقراطي لمنافسة الرئيس دونالد ترامب على الرئاسة خلال انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
يمثّل صعود ساندرز ثمار جهوده خلال السنوات الماضية لبناء حركة شعبية داعية الى ثورة اقتصادية وسياسية في أميركا. ويتمتع سناتور فيرمونت، البالغ 78 سنة، بتأييد شرائح واسعة من الحزب الديموقراطي، خصوصا جيل الشباب، ويصل حماس أنصاره الى درجة تجعل بعض تجمعاته الانتخابية أشبه بحفلات موسيقية للروك.
لكن قدرة ساندرز على توليد الحماس والأمل في نفوس أنصاره، لوقف نفور الجناح المعتدل للحزب الديموقراطي منه مثار نقاش. ولا يزال بعض الديموقراطيين يحملونه مسؤولية فشل هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية سنة 2016، قائلين إن هجماته على كلينتون، خلال الانتخابات التمهيدية، أضرت بشعبيتها عندما نافست ترامب، كما أن الكثيرين من مؤيدي ساندرز لم ينتخبوا كلينتون. كما يزعج أسلوب ساندرز في الخطاب بعض المصوتين، لانه يرفع سبابته في الهواء ويعظ جمهوره مثل كاهن.
شعبوية ساندرز ليس السبب الوحيد لمعارضته على مستوى الديموقراطيين "المعتدلين".. هؤلاء يخافون من تشدده الأيديولوجي لصالح الاشتراكية التي يتبناها علنياً. مثل هذا التشدد قد يقود أفكار الناخب الأميركي مباشرة إلى الصراع مع الشيوعية في القرن الماضي، التي يبدو مصطلح الإشتراكية أقرب لها من قربه من الحياة السياسية الأميركية.
واظهر استطلاع رأي أجراه معهد غالوب سنة 2019 ان 47 في المئة فقط من الناخبين مستعدون للتصويت لمرشح رئاسي إشتراكي. بينما 60 في المئة أبدوا الاستعداد للتصويت لمرشح ملحد، و76 في المئة لمرشح مثلي الجنس، و94 في المئة لمرشحة أنثى.
على هذا الصعيد يضع صعود ساندرز الحزب الديموقراطي أمام مأزق. حاضنة الحزب الشبابية تدين له بالولاء وستتوافد بكثافة وحماس على صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية إذا فاز ببطاقة الترشح. ولكن هذا السيناريو قد يجعل المصوتين الديموقراطيين "المعتدلين"، وخصوصا الذين تجاوزوا طور الشباب الأول، يترددون في التصويت في السباق الرئاسي بسبب نفورهم من ساندرز، كما أن اعتناقه الاشتراكية سيزوّد الحزب الجمهوري بذخيرة سياسية من العيار الثقيل، في دعايته الانتخابية القائمة على أن الحزب الآخر يريد تحويل أميركا إلى نظام شيوعي.
الثورة الإشتراكية
تنادي أيديلوجية ساندرز الاقتصادية والسياسية بقلب موازين القوة لصالح الطبقة العاملة والوسطى. منذ عقود يشدد السناتور على محاربة تفاوت الثروة المتزايد بين هاتين الطبقتين وبين الطبقة الثرية. واشتهر بتكرار مقولة أن 1 في المئة من الشعب الأميركي، تملك ثروة تعادل 90 في المئة من الثروة الأميركي. وعلى منبر المناظرة الديموقراطية في نيفادا قبل أسبوعين، وصف ساندرز ثروة خصمه مايكل بلومبيرغ، الذي يأتي في المرتبة 12 على سلم أثرى أثرياء العالم ، بأنها "فادحة وغير أخلاقية".
يدعو ساندرز الى تقليص ثروة المليارديرات إلى النصف عن طريق فرض ضرائب عالية عليهم، كما يدعو إلى فرض ضرائب على معاملات البورصة، من أجل تمويل مشاريع حكومية ضخمة لتحسين رفاهية الشعب. كذلك يشدّد على تقليل نفوذ الشركات والأغنياء في المشهد السياسي، من خلال وضع قيود للتبرعات المسموح منحها من قبلهم للسياسيين.
تلاقي مواقف ساندرز هذه استحساناً عند الحاضنة الشعبية للحزب الديموقراطي، بل قد يؤيدها معظم الشعب الأميركي. لكن "الجناح المعتدل" للحزب يختلف مع الكثير من سياسات ساندرز الأخرى بسبب تشددها اليساري، والتي من شأنها، حسب قول هذا الجناح، دفع الشعب الأميركي إلى حضن الحزب الجمهوري والرئيس ترامب.
وبين مطالب ساندرز المثيرة للجدل في الأوساط الأميركية: توفير الحكومة عمل وبيت لكل مواطن محتاج إلى ذلك، وتطبيق نظام حكومي للتأمين الصحي يشمل إغلاق الشركات الخاصة التي تعمل في هذا المجال، وإلغاء كافة الديون الطلابية والطبية، وتوفير التعليم الجامعي المجاني لكل طالب، وتحديد الحد الأدنى لأجور المعلّمين والمدرّسين ب60 ألف دولار سنوياً، وتقليص عدد السجناء إلى النصف، وتقنين الماريجوانا.
لا يتطلب نجاح المرشح للانتخابات الرئاسية كسب المصوتين من حزبه فحسب، بل استقطاب بعض المصوتين من الحزب الآخر والمستقلين أيضاً. وبما أن الديموقراطيين "المعتدلين" يختلفون مع ساندرز على الكثير من سياساته، بسبب تطرفها اليساري، فكيفية كسب ساندرز للمستقلين والجمهوريين، أمر مقلق جدا للقيادة الديموقراطية، التي تفضل بدورها مرشحاً أكثر اعتدالا لمنافسة ترامب، مثل جو بايدن أو مايك بلومبرغ.
صراع الأجيال
تفوق ساندرز الحالي هو نفسه قد يكون سبب سقوطه لاحقاً، فنسبة تأييد الاشتراكية في الولايات المتحدة تتناقص عكسيا مع عمر المصوّت حسب معهد بيو، ما يفسّر شعبية ساندرز عند الشباب وعدم شعبيته عند الأكبر سناً. يعود هذا الشرخ الى الكثير من الأسباب، أهمها أن الجيل الجديد لم يعِش تجربة الحرب الباردة، وصراعاتها الساخنة، مع "العدو" الشيوعي. وأيضاً كون كبار السن يملكون معظم الثروة الأميركية، وبالتالي هم مهدّدون مباشرة بفرض الثورة الاشتراكية ضرائب عالية عليهم، بينما الجيل الجديد لم يرَ الخير في النظام الرأسمالي القائم ، بل تخرج من الجامعة وعليه ديون طلابية خيالية، ليدخل في اقتصاد ينهض ببطء وصعوبة منذ الأزمة المالية عام 2008.
إذا حصل ساندرز على ترشيح الحزب الديموقراطي، سيستغل الحزب الجمهوري مواقفه المؤيدة للشيوعية للهجوم عليه. على سبيل المثال، انتشر مقطع فيديو يظهر ساندرز في ملابسه الداخلية، يغني في حفلة صاخبة خلال زيارته الى الاتحاد السوفيتي سنة 1988، وخلال الزيارة نفسها انتقد جوانب من السياسة الأميركية ومدح جوانب من السياسية السوفيتية. وهذا المقطع يعتبر هدية ثمينة للحزب الجمهوري للنيل من شان السيناتور والتشكيك في حبه للوطن.
الكابوس الذي يؤرّق القيادة الديموقراطية هو هروب عامة الشعب باتجاه الحزب الجمهوري في حال حصول ساندرز على الترشح، ما يؤدي الى فوز ترامب في السباق الرئاسي، وأيضاً قلب الكونغرس لصالح الحزب الجمهوري، الذي يسيطر على مجلس الشيوخ، فيما يسيطر الديموقراطيون على مجلس النواب. وتفادياً لهذا السيناريو، قد تلجأ القيادة الديموقراطية إلى منح بطاقة الترشيح لمرشح آخر إذا لم يفز ساندرز بالأصوات اللازمة لحسم الأمر تلقائياً. ولكن هذا الخيار سيغضب أنصار ساندرز وقد يحرم المرشح الديموقراطي، المعيّن من قبل القيادة، من أصواتهم، كما حصل مع هيلاري كلينتون.
يطمح مؤيدو الحزب الديموقراطي اليوم لتكاتف القيادة والحاضنة، الشباب والأكبر سنا، مع أي مرشح يفوز بالانتخابات التمهيدية، من أجل تجنيب أميركا ولاية ترامبية ثانية. ولكن المؤشرات الحالية لا تطمئن.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها