مع اضطرار السوريين للتخلي عن الكثير من الأمور التي اعتادوا عليها بحكم الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي يواجهونها، كانت العادات الغذائية في مقدمة هذه الأمور، ليصل الأمر أخيراً إلى الوجبات التي لطالما عُرفت بأنها "غذاء الفقراء" والتي لم تعد كذلك مع الارتفاع المتواصل في الأسعار والانتشار المتزايد للفقر والبطالة، مقابل بروز عادات غذائية جديدة أدت الى إنتشار مواد لم تُكن تباع من قبل في الأسواق.
ومع الأزمات المستمرة والغلاء الفاحش ومواصلة حكومة النظام رفع الدعم الحكومي عن المواد الاستهلاكية الأساسية وتخفيض المخصصات التموينية وإزالة بعضها من نظام البطاقة الذكية، بدأ السوريون بمحاولة الموازنة بين دخلهم المنخفض والمصاريف اليومية المرتفعة، من خلال تقنين استهلاك المواد الرئيسية مثل الرز والمعكرونة والزيوت وغيرها من المنتجات الزراعية كالبطاطا والبقوليات الغنية بالمكملات الغذائية، والبحث عن حلول بديلة للحوم ومشتقاتها.
عظام الذبائح تباع بالكيلو
عظام الذبائح التي كان يرميها الجزارون سابقاً أو تقدم مجاناً للسكان الراغبيين بوضعها تحت وجبات الطهي الفاخرة مثل المحاشي، أصبحت اليوم تباع بالكيلو وحسب الصنف على بسطات خاصة بها تنتشر عند مداخل الأسواق في العاصمة دمشق وغيرها من المدن، وبأسعار تصل إلى الألف ليرة للكيلو الواحد.
وتشهد البسطات التي تعرض هذه المادة إقبالاً من الكثيرين بعد أن بات شراء اللحوم بكافة أصنافها متعذراً بالنظر إلى أسعارها المرتفعة جداً، وبالنظر إلى اهتمام السوريين بالحفاظ على الحد الأدنى من المكونات الغذائية التي يوفرها اللحم، فقد لجأ الكثيرون منهم اليوم إلى تعويضه بالعظام المغلية مع الشوربا أو بطهيها مع الرز والبرغل وغيرها من الوجبات التي ما تزال ممكنة.
ويكشف أبو تحسين، وهو أحد سكان جنوب دمشق، ل"المدن"، أن "اللحم لم يعد متاحاً للفقراء إطلاقاً، في حين أن كيلو العظم المجمد يبلغ 800 ليرة والعظم الطازج 1000 ليرة". ويضيف متحسراً على ما آلت إليه الأوضاع، "بما أن العظام تعطي نفس الرائحة التي يقدمها اللحم وبعض الدسم، كما يمكن استخدامها في طهي الشوربا والرز والكثير من المأكولات المنزلية الأخرى، إضافة إلى قدرتنا على تذوق ما يشبه اللحم الموجود في بقايا مفاصل العظام، فقد أصبحت بضاعة رائجة جداً".
وقد وصل سعر كيلو لحم الضآن إلى 7000 ليرة وفق التسعيرة الرسمية أما في المحال فيباع بما يزيد على 17000 ليرة بينما يبلغ سعر كيلو لحم الفروج المذبوح 3800 ليرة و7000 ليرة للشرحات.
مواد مغشوشة
ولم تتوقف عمليات البحث عن البدائل على طهي العظام عوض اللحم فحسب، فقد أدى ارتفاع أسعار المشتقات الحيوانية والألبان منها خاصة، التي تعتبر أحد أهم المواد الغذائية بالنسبة إلى السوريين، إلى ظهور نوعيات جديدة من اللبن الصناعي واللبنة المعروفة باسم "لبنة السكب" المصنعة من النشاء وبودرة الحليب والزبدة النباتية وملونات. وبات هذا النوع يلقى رواجاً واقبالاً من السكان، بالنظر إلى سعرها المنخفض حيث يباع الكيلوغرام الواحد بسعر 800 ليرة، في حين يبلغ سعر اللبنة البلدية 3900 ليرة.
كما تشهد رفوف البقاليات والمحال التجارية انتشاراً واسعاً للزيوت المغشوشة أو المخلوطة، منها ما يُباع بديلاً عن زيت الزيتون ويكون مصنوعاً من مياه نبتة السلق المغلية وروح الزيت ومواد حافظة، وأخرى تباع بديلة عن الزيوت النباتية الصحية وتكون مشبعة بالمواد الحافظة وأخرى من بقايا أصناف الزيوت منتهية الصلاحية، ويصل سعر الليتر الواحد إلى الألف ليرة في حين وصل سعر صفيحة زيت الزيتون 17 كيلوغراماً إلى أكثر من مئة وعشرة آلاف ليرة.
وتقول أم محمد، من سكان الجزء الشرقي من مدينة حلب: "حتى العائلات التي تمتلك مصدر دخل لم تعد قادرة على دفع مبلغ 3000 ليرة ثمناً لليتر من زيت النباتي، أو ضعفها ثمناً لليتر زيت الزيتون. وهذه الزيوت المغشوشة التي لم يكن متصوراً قبل ذلك أن تدخل منازلنا، أصبحت اليوم بديلاً مناسباً تفي حاجتنا في قلي البطاطا والفلافل وغيرها، وأسعارها مقارنة بالزيوت الأصلية تُعتبر جيدة".
لكن السعر المنخفض تترتب عليه ضريبة خطرة، إذ يحمل كل نوع وصنف من السلع (المضروبة) مثل اللبنة السكب والزيت المطبوخ أو حتى العظام، تهديداً مباشراً بالأمراض التي قد تنجم عن تناولها بشكل دائم. ورغم الإعلان الحكومي عن محاربة تلك البضائع إلا أنها آخذة بالانتشار بسبب ارتفاع معدل الإقبال عليها.
ويُعتبر هذا الإقبال نتاجاً طبيعياً بالنظر إلى الأزمات المتراكمة التي يعيشها السوريون وما خلفته من زيادة معدل الفقر وتفشي البطالة وانحسار مصادر الدخل وانخفاضها حتى تكاد تصل إلى 17 دولاراً شهرياً، مقارنة بمستوى المعيشة الحالي والذي يحتاج إلى ما لا يقل على 300 دولار للحصول على أدنى متطلبات الحياة الطبيعية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها