مع المقاومة الشديدة التي تبديها فصائل المعارضة في إدلب وريف حماة الشمالي، رغم عنف الهجمات الجوية الروسية، والبرية عبر المليشيات، يبدو أن مصير مناطق المعارضة ليس محكوماً بالاستسلام للنظام وداعميه.
وعلى الرغم من أن الفصائل في الشمال مدعومة من تركيا، فإنه تجوز المقارنة مع الجنوب السوري، الذي بالكاد مرت الذكرى السنوية الأولى على استسلام المعارضة فيه، وتوقيعها اتفاقات "المصالحة" مع النظام وتهجير الرافضين لها. المعارضة في الجنوب السوري؛ درعا والقنيطرة، كانت قد وضعت كل بيضها في سلة "غرفة الموك" الداعمة لها، وصدّقتها بأن اتفاق "خفض التصعيد" في الجنوب مختلف عنه في الغوطة الشرقية.
تلك المقارنة قد تختلف من حيث التأثير لدول الجوار السوري، شمالاً وجنوباً، في الوصول إلى اتفاق يضمن وجود المعارضة ويحفظ أمن المنطقة وتلك الدول، خاصة أن تركيا تمثل لاعباً رئيساً ومؤثراً في تحقيق نوع من التوازن بين الفصائل وقوات النظام المدعومة بالطيران الروسي. في حين اقتصر الدور الأردني في الجنوب على التماهي بشكل كامل مع الاتفاق الأميركي–الروسي بشأن المنطقة، من دون استخدام أوراق ضغط أو التغريد خارج السرب الأميركي. وتحمل الأردن بذلك أعباء أمنية واستخبارية لضبط أمنه ومنع عمليات التهريب ورصد تحرك المليشيات المدعومة من إيران، وعمليات التجنيد لصالح تلك المليشيات على الطرف المقابل من الحدود.
قبل المعركة
في الفترة التي كانت تعيش فيها الغوطة الشرقية قصفاً بمختلف أنواع الأسلحة، كان الجنوب السوري يعيش رغد اتفاق "خفض التصعيد" الذي ألزم فصائل "الجبهة الجنوبية" بعدم فتح معارك مع النظام تحت أي ظرف كان، حرصاً على المدنيين وعلى الإتفاق.
وعلى الرغم من أن غرفة العمليات العسكرية الـ"موك"، كانت قد أوقفت الدعم عن فصائل المعارضة في وقت سابق، إلا أن الاستجابة للإملاءات تجاوزت المتوقع.
قبيل معارك الغوطة الشرقية، مطلع العام 2018، كان عدد من قادة فصائل "الجبهة الجنوبية" متواجدين في الأردن، بينهم القائد الفعلي لـ"فوج المدفعية" فايز عبدالنبي، والقيادي في "جيش الثورة" عماد أبو زريق. وعقد القادة عدداً من الإجتماعات مع مندوبي الدول "أصدقاء الشعب السوري"، في عمان. وكانت التوجيهات للقادة دوماً تشدد على ضرورة عدم فتح أي عمل عسكري في الجنوب ضد النظام. وفي ذلك إشارة إلى ضرورة إفشال العمل العسكري، الذي كانت المعارضة تُجهّزُ له، والمقرر أن يستهدف قطعات النظام العسكرية في محيط مدينة ازرع؛ "اللواء 12" و"الفوج 175".
العملية التي خططت لها المعارضة، كانت على الأغلب ستلقى نجاحاً كبيراً على الأرض، خاصة أن تعزيزات عسكرية كبيرة من قوات النظام كانت قد غادرت تلك القطعات، للمشاركة في معارك الغوطة. نجاح العمل العسكري كان يعني بالضرورة قلب الموازين والسيطرة على منطقة حيوية استمات النظام في الدفاع عنها لسنوات.
ولإفشال العمل العسكري ذلك، أطلق القادة المؤثرون في "الجبهة الجنوبية"، مجموعة من الحجج والأعذار للمراوغة وكسب الوقت. أحياناً تذرعوا بأن العمل بقيادة إسلامية؛ "هيئة تحرير الشام" و"حركة أحرار الشام"، وتمويل "مجلس حوران الثوري". وأحياناً زعموا عدم وجود طرق آمنة لإخلاء جرحى المعركة، ومرات بنقص الذخيرة والعتاد.
وبالتزامن مع ذلك، روّج ناشطون مقربون من دول إقليمية وخليجية، رسائل بعدم وجود فائدة تذكر من فتح معركة في الجنوب، وأن وضع المنطقة يختلف عن بقية المناطق التي تسيطر عليها المعارضة على امتداد سوريا. وعزز من قوة هذه الأصوات، رسالة القسم السياسي في السفارة الأميركية في عمان، منتصف آذار/مارس 2018، والتي حملت في طياتها "الشعور بالألم لجرائم النظام والروس في الغوطة الشرقية" وحثت فصائل الجنوب على "الالتزام باتفاق خفض التصعيد"، وأعطتهم بصيص أمل في أن تكون المنطقة الجنوبية التي تسيطر عليها المعارضة المعتدلة "البوابة للحل السياسي المنشود في سوريا"، كما حذرت الرسالة الفصائل من "إعطاء النظام أي مبرر لشن هجوم على المنطقة إذا ما بادرت الفصائل بالمعركة".
أواخر أيار/مايو 2018، كان سقوط الجنوب واضحاً، وكانت المسألة مسألة بالوقت ليس أكثر. ولكن عملياً، يمكن اعتبار بداية تسليم المنطقة للروس، أنها تعود إلى تموز/يوليو 2017، عندما فُرِضَ اتفاق "خفض التصعيد" في المنطقة الجنوبية، والذي لم تتضح بنوده، وظل حكراً على الدول التي وقعته وأنشأت مركزاً لمراقبة تنفيذه في العاصمة الأردنية عمان، وكان معنياً بتوثيق الانتهاكات وعمليات القصف، من دون القيام بأي إجراء.
في عمان، وقبيل سقوط الجنوب بيد مليشيات النظام، عقدت السلطات الأردنية مجموعة اجتماعات مع قادة الفصائل المعارضة؛ أحمد العودة وبشار الزعبي والعقيد محمد الدهني وراكان الخضير، وآخرين، بعضها بحضور ممثل عن روسيا. وجرت تلك الاجتماعات، بعد زيارة لنائب رئيس "الهيئة العليا للمفاوضات" خالد المحاميد، لعمان. المحاميد كان قد خصص وقته للظهور يومياً في وسائل الإعلام، للحديث عن ضرورة التفاوض مع الروس لتجنيب المنطقة شر القتال. الرغبة التي أصر عليها المحاميد، بغية التوصل إلى اتفاق، ينهي وجود المعارضة في المنطقة. لا بل إن المحاميد، سبق وهدد باستخدام القوة العسكرية لفتح معبر نصيب، في حال لم يتم التوصل لاتفاق لإعادة تفعيله، في الاجتماع الذي عقدته المعارضة في عمان أواخر أيلول/سبتمبر 2017.
وعرض الجانب الأردني على المعارضة التدخل كوسيط في المفاوضات مع الروس، من دون تقديم أية ضمانات أو استجابة لشروط مسبقة وضعتها المعارضة للدخول في المفاوضات. وأوضح الجانب الأردني لقادة الفصائل أن "الدول قد تخلت عنهم ولم يبق في الساحة سوى مجموعة فصائل متناحرة، والأردن الجار القريب للجنوب السوري والمتخوف من داعش والمليشيات المدعومة من إيران في آن واحد".
الخيارات المحدودة، والقرار الأميركي بالتخلي عن المنطقة وإطلاق يد الروس فيها، لم يترك للأردن سوى الموافقة على التواجد الروسي في الجنوب السوري، عبر مليشيا من ابناء المنطقة. وهذا ما عبر عنه الجانب الأردني صراحة في آخر اجتماع مع قادة ميدانيين من المعارضة، في معبر جابر الحدودي، مطلع تموز/يوليو 2018، بعد سيطرة النظام وحلفائه على أجزاء واسعة من ريف درعا الشرقي.
بيعة دم
ختم قادة الفصائل اجتماعاتهم في الأردن باجتماع في منزل أحد القادة في مدينة اربد، في وقت كانت فيه قوات النظام تتقدم على الأرض بغطاء جوي روسي. وتم الاتفاق خلال الاجتماع على المقاومة حتى الرمق الأخير، أو "بيعة دم" كما أسماها البعض، بغية التوصل إلى اتفاق يبقي على السلاح الخفيف في يد المعارضة. وانتهى اجتماع اربد، باتفاق أغلبية الحضور على العودة إلى سوريا، على أن يُسلّم الرافضون للعودة من قادة الفصائل مستودعات الأسلحة الموجودة لديهم لمن عادوا لتكون تحت تصرفهم. فعلياً، قرار العودة إلى سوريا، والتفاوض مع الروس، لم يكن طوعياً وإن بدا كذلك. الضغوط التي مورست على القادة للإسراع في العودة، تفسر عودتهم مباشرة في وقت متأخر من الليل، بعد انتهاء اجتماع اربد.
أين السلاح؟
سؤال ظل يتردد لسنوات في أوساط عناصر الفصائل والحاضنة الشعبية للثورة في المنطقة الجنوبية. إذ لطالما دخلت شحنات كبيرة من الأسلحة بشكل دوري إلى المنطقة، ولكن لم تستخدم في المعارك ضد النظام. أحد ممثلي الفصائل العسكرية في غرفة عمليات "الموك" كان قد قال لي سراً، إن "التوجيهات الأميركية بعد العام 2015، كانت لمحاربة تنظيم داعش فقط، وسيتم معاقبة الفصائل التي تخالف التعليمات بالحرمان من الأسلحة والأموال". تصريف تلك الأسلحة لم يكن خافياً، إذ كان القسم الأكبر منها يباع لتجار الأسلحة في المنطقة، ومنهم من ذاع صيته وبات من أكبر التجار في الجنوب أمثال تيسير الشريف "شكشك" الذي قتل في نيسان/أبريل 2016 باستهدافه بعبوة ناسفة.
خلال المعارك مع تنظيم "الدولة" في حوض اليرموك، كانت عمليات بيع الأسلحة تتم في أرض المعركة. وخلال إعداد تقرير مصور ذات مرة بالقرب من مناطق سيطرة "داعش"، وجّهتُ سؤالاً لأحد قادة الفصائل عن سبب وجود تجار أسلحة في منطقة تشهد اشتباكات، فأجاب بأن الجزء الأكبر من الذخيرة يتم بيعه لهؤلاء التجار الذين يعيدون بيعه للتنظيم في المنطقة وإدخاله من معابر مخصصة، مقابل مبالغ مالية توزع على بعض الفصائل المتواجدة في المنطقة. كما يباع السلاح لتجار في منطقة اللجاة، بحيث يصل مجددا للتنظيم في البادية.
في نيسان/أبريل 2016، التقيت بمحض الصدفة، مجموعة من تجار الأسلحة في المنطقة، بينهم حسام الناصر "أبو حلب" (قتل في تموز 2016 بتفجير انتحاري في منزل أحد القادة في مدينة انخل شمالي درعا). وكان الاجتماع لحل خلاف نشب على إثر بيع مجموعة صواريخ من نوع "تاو"، غير صالحة. وتمّ حلّ الخلاف بتحميل كل من البائع والشاري، 12 ألف دولار، كخسارة يحملونها بين بعضهما. مستودع الأسلحة الذي كان يمتلكه الناصر في مدينة جاسم، كان يحتوي على عشرات قذائف المدفعية والصواريخ بأنواعها وقواعدها. فقد كان الناصر يمثل مدير مبيعات أسلحة لـ"ألوية مجاهدي حوران"، كما باقي الفصائل التي اتخذت من بعض التجار كمندوبين ومسؤولي مبيعات، للحصول على المال.
كانت المعادلة بحسب أحد القادة بسيطة للغاية، إذ تعطي الدول الأسلحة والذخائر لفصائل الجيش الحر في الوقت الذي يمتلك فيه تنظيم "داعش" المال، لتتم المبادلة بين الطرفين، وفق الحاجة. والقسم المتبقي من الأسلحة يتم إيداعه في مستودعات منتشرة في مناطق واسعة، بعيداً عن نقاط الاستهداف المعتادة.
بيع الأسلحة للتنظيم بطريقة مباشرة من قادة الفصائل او عبر وسطاء محليين أدى إلى نشوب خلافات بينهم، ما أسفر عن تصفية بعض القادة المعروفين ببيع الأسلحة للتنظيم والمسؤولين المباشرين عن قيادة المعارك ضد التنظيم. ومنهم القيادي في "ألوية مجاهدي حوران" حسن الوادي، الذي قتل في نيسان/أبريل 2017، بعدما سيطر التنظيم على قرى وبلدات جديدة في حوض اليرموك. حادثة الاغتيال بحسب مقربين من الوادي، كانت نتيجة خلافات على بيع أسلحة ومسؤوليته عن سقوط العديد من نقاط المعارضة في تلك الفترة، خاصة تل الجموع القريب من مدينة نوى. وقد تمكن التنظيم حينها من الاستيلاء على مدافع من عيار 130 مم، وشاحنات تحمل عشرات القذائف، كان الوادي قد أمر بإبقائها في التل، في اليوم الذي سيطر عليه التنظيم.
مؤشرات النهاية
قبل بدء حملة النظام العسكرية على الجنوب، كانت جميع المؤشرات باقتراب النهاية واضحة. التعزيزات العسكرية وصلت إلى المنطقة، وتوزعت على أكثر من محور؛ مدينة ازرع ومنطقة مثلث الموت، والقنيطرة، منذ أواخر أيار/مايو. وعلى الرغم من رصد التعزيزات، بشكل يومي، إلا أن "فوج المدفعية" الذي يقوده فايز عبدالنبي، والذي كان ينشر أسلحته في ريفي درعا الشرقي والغربي، رفض التعامل معها بحجة أن الأسلحة والصواريخ التي يمتلكها الفوج محدودة.
وقد أثبتت الأحداث عكس تلك الادعاءات، بعدما اقتحم عناصر من الجيش الحر مستودعات الفوج الموجودة في معبر نصيب الحدودي، وعثروا على مئات البنادق الآلية وعشرات الأسلحة المتوسطة وآلاف الذخائر والقذائف المتنوعة، بالإضافة الى عربات أميركية مدرعة ظهرت في تسجيلات مصورة بثتها وسائل إعلام النظام بعد السيطرة على المنطقة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها