لم يتفوق في الأهمية على الهجوم الصاروخي الأميركي على مطار الشعيرات العسكري، التابع لقوات الرئيس السوري بشار الأسد، إلا تصريح وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، الذي قال فيه إن واشنطن "ستلجأ إلى عملية جنيف لطرد الأسد" من الحكم.
وبغض النظر عن كمية الضرر الذي تسببت به الصواريخ الأميركية لقوات الأسد، إلا أنها ثبتت موقفاً أميركياً جديداً من الأسد يجعل من الصعب على واشنطن التراجع عنه، الآن أو مستقبلاً.
ومنذ استيلاء الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على السلطة، في انقلاب "الحركة التصحيحة" مطلع السبعينات، والعلاقة بين الولايات المتحدة وآل الأسد علاقة واقعية، قد يشوبها توتر من حين إلى آخر، ولكن لم يسبق أن انقطعت بالكامل، إذ لطالما اعتبرت واشنطن أن بيت الأسد واقعيون ومستعدون دائماً لوضع خدماتهم الاستخباراتية والأمنية في خدمة الغرب، وأن غياب عائلة الأسد عن الحكم في دمشق هو أمر أسوأ، بالمطلق، من بقائهم.
ومنذ اندلاع الثورة السورية وواشنطن مترددة في الطلب من الأسد الرحيل، إذ اكتفت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما بالطلب من الأسد "افساح المجال" للاصلاح. وفي أقسى انتقاداتها، قالت إدارة أوباما أن لا مستقبل للأسد في سوريا، ولكنها لم تتخل يوماً عن دور الأسد، على الأقل في المشاركة في المرحلة الانتقالية، التي تقرر ما يليها.
وبسبب دوامة الحرب التي فرضها الأسد على سوريا، وبسبب عدد القتلى الهائل، واستمرار تدفق اللاجئين، ودمار البنيان السوري، وغياب الأهمية الاستراتيجية لسوريا من منظور أميركي وعدم اكتراث واشنطن وعواصم العالم للمأساة الانسانية السورية، بل السعي لانهاء هذه المأساة بأقل تكلفة ممكنة، لاحت بوادر "عودة الأسد من منفاه السياسي" مع وصول دونالد ترامب الى سدة الرئاسة الاميركية.
وتلقف حلفاء الأسد من العرب والاسرائيليين الفرصة الذهبية التي سنحت لإعادة تأهيل الأسد، وتسويقه على أنه الحل الوحيد في سوريا القادر على المساهمة في حسم "الحرب ضد الإرهاب"، وتأكيد عدم عودة "الإرهابيين".
وبدأ أصدقاء الأسد بالعمل من داخل إدارة ترامب، وأدى مجهودهم الخارق إلى تراجع في المواقف الأولية للإدارة الأميركية من إدانة الأسد إلى مواقف غير مكترثة بما يرتكبه داخل سوريا.. إلى أن وقعت هجمات خان شيخون الكيماوية.
ومسؤولية الأسد عن هجمات خان شيخون مثبتة إلى درجة أن الروس، لمعرفتهم ما تعرفه الوكالات الاستخباراتية الغربية، حاولوا التخفيف من وطأة الأزمة باعترافهم بقيام مقاتلة تابعة للأسد بغارة على خان شيخون، وقولهم في الوقت ذاته إن مقاتلة الأسد لم تلقِ مواداً كيماوية، بل إن هدفها كان مخزناً كيماوياً.
"الحزب الديموقراطي" الأميركي استغل الهجوم لتبرير تقاعس أوباما عن ضرب الأسد، وتحدي ترامب، على تبني سياسة مختلفة. "الحزب الجمهوري" ألقى باللائمة على أوباما ورأى فرصة سانحة لترامب لاظهار قوته، على عكس ضعف سلفه، وتحدي موسكو على أنه برهان على أن الرئيس الاميركي ليس رجل الروسي فلاديمير بوتين، وأنه مستعد لضرب مصالح بوتين وحلفائه حول العالم.
هجوم خان شيخون الكيماوي كان خطأ الأسد الفادح، الذي حاول حلفاؤه من العرب والاسرائيليين في واشنطن اقناع إدارة ترامب أن من تقف خلف الهجوم هي إيران والمليشيات المتحالفة معها، في محاولة لحماية الأسد وضرب عدوتهم إيران. لكن "للهبل حدود"، إذ بدا أن محاولة توجيه الضربة بعيداً عن الأسد باتجاه ايران هي محاولة عقيمة، ولا يمكن تسويقها لدى الرأي العام الأميركي، الذي هالته صور المجزرة الكيماوية.
هكذا وجّه ترامب للأسد ضربة اعتبرتها غالبية الخبراء بمثابة "هزة عصا" أميركية للرئيس السوري، من الناحية العسكرية، على الرغم من تواتر أنباء عن تدميرها 20 مقاتلة للأسد، وهو عدد كبير نسبياً.
ورغم صغر الضربة العسكرية الاميركية ضد الأسد، فإنها تحمل في طياتها تأكيداً على انهاء العلاقة الاميركية مع آل الأسد إلى غير رجعة، وتأكيداً أنه مهما بقي الأسد في الحكم، فسيبقى بصفة "رئيس منبوذ" عالمياً، أو يخرج من الحكم في المستقبل القريب أو البعيد، على غرار الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، الذي نجا من حرب الخليج الأولى، لكنه بقي معزولاً إلى أن أطاحت به أميركا في أول فرصة ممكنة، لاحت بعد أكثر من عقد من الزمن.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها