"أميركا أولا" هو الشعار الذي أطلقه ترامب في حملته الانتخابية، وفي أدائه القسم الرئاسي، وفي خطابه عن الأمن القومي. لم تمض أيام قليلة حتى قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة عقد لقاء للتصويت على سيادة القدس، بعد ان اوحى ترامب للعالم — بطريقة مسرحية لم تقترن بأي خطوات عملية او سياسات فعلية — أنه قرر الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل.
على الرغم من كل عنترياته، لم يتجرأ ترامب على التلفظ بعبارة "القدس الموحدة" عاصمة لاسرائيل، بل تقصّد الغموض، وذكرالقدس بشكل عام، وترك تفاصيل ترسيم حدود القدس وتقرير مصيرها الى المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين.
كان ترامب يسعى لإصابة أكثر من عصفور بحجر واحد: يقدم نفسه على انه الرئيس الاميركي الوحيد الذي يتمتع بالجرأة الكافية لاعلان القدس عاصمة اسرائيل، بعد 22 عاماً من بدء صدور سلسلة من القرارات في الكونغرس التي تطالب بالأمر. مكسب آخر رآه ترامب في استمالة اليمين المسيحي الذي يعد نفسه بعودة المسيح، فقط بعد قيام دولة اسرائيل وعاصمتها القدس. المكسب الثالث، في رأي ترامب، كان الحصول على الدعم المالي والانتخابي الكبير لليهود الاميركيين في حملة ترشحه لولاية رئاسية ثانية في العام 2020. بدا لترامب إعلانه المسرحي حول القدس تذاكي يعود عليه بمكاسب، ومن دون تكلفة أو أضرار.
بعد خطابه عن القدس، أدلى ترامب بخطابه عن استعادة مجد أميركا وقوتها، مكرراً صورة "أميركا اولا".
ولم تمض أيام حتى وجدت أميركا نفسها مقبلة على مواجهة ديبلوماسية في الأمم المتحدة، مواجهة تمتحن أميركا برئاسة ترامب المستقوي. وعلى طريقته المسرحية، أعلن ترامب أن بلاده ستوقف المساعدات المالية للحكومات التي تصوّت لمصلحة "قرار القدس". لكن حتى حكومات هذه الدول لم تكترث لتصريح رئيس أميركا.
مصر، مثلاً، متعاقدة مع الاميركيين. تقدم لهم أمن حدودها مع اسرائيل، وأمن الملاحة في السويس، وحق تحليق الطيران العسكري الاميركي في الاجواء المصرية، مقابل مئات ملايين الدولارات. المساعدة الاميركية لمصر لا تشتري لواشنطن أكثر من ذلك. هكذا، صوتت مصر ضد قرار القدس.
في المحصلة، صوتت إلى جانب أميركا وإسرائيل حكومات سبع دول فقط، وهي دول عدد سكانها قليل واقتصاداتها صغيرة، ومعظمها من الجزر النائية، ما دفع أحد المعلقين الاميركيين إلى القول، بتهكم، إن على ترامب الاحتراس من الاحتباس الحراري الذي قد يطيح بحلفاء أميركا السبعة حول العالم.
أراد ترامب أن يحصد فوزاً مجانياً في خطاب يدغدغ فيه مشاعر اليمين المسيحي وبعض اليهود الاميركيين، وأراد أن يظهر أميركا قوية، فجاءت ردة الفعل عكسية: لم تظهر أميركا قوية، بل ظهرت وحيدة.
كشفت كارثة خطاب ترامب الفارغ حول القدس أميّته في السياسة الدولية. الرجل بائع شنطة، يستخدم حسابه على "تويتر" وخطاباته الرئاسية ليبيع الناس كلاماً؛ لا يعرف أن للكلام حساب، وأن في السياسة الدولية، قد يؤدي الكلام غير المدروس إلى ردات فعل مؤذية.
هكذا، أفسد تصويت الأمم المتحدة على منع اسرائيل ابتلاع القدس الموحدة عاصمة لها انتصار ترامب الضرائبي التشريعي، وشتت انتباه الاميركيين وإعلامهم عن إنجاز ترامب في الكونغرس باتجاه المذلة التي لقتها الولايات المتحدة في المحفل الدولي الذي تستضيفه وتسدد غالبية تكاليفه.
سيتذكر التاريخ يوما أن رئيس أميركا دونالد ترامب رفع شعار "أميركا أولاً"، فجنى "أميركا وحيدة".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها