شهدت "حركة أحرار الشام الإسلامية" في الأيام الأخيرة، تطورات مهمة، عكست واقع الصراع الفكري داخل الحركة، ما قد يُحدد بشكل كبير مستقبلها. ويأتي ذلك في الوقت الذي يتصارع فيه التياران الرئيسيان اللذان يمثلان قوى المعارضة؛ التيار الجهادي والتيار الثوري، من أجل الفوز بالحركة، بالنظر إلى ما تمثله "أحرار الشام" من ثقل شعبي وعسكري كبير.
"المجلس الشرعي" الذي شكّلته "أحرار الشام" (سلطة شرعية تستعين بها الحركة بمشايخ منها ومن خارجها، تتوكل مهام اصدار الفتاوى)، كان قد أصدر فتوى رسمية، الثلاثاء، تبيح المشاركة في العمليات العسكرية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في شمال وشرق حلب، بالتعاون مع الجيش التركي. وبعد يوم واحد من الفتوى، أعلن مسؤولان شرعيان في "الحركة"؛ المصريان أبو اليقظان وأبو شعيب، استقالتهما، كما أصدر "لواء أشداء" العامل في حلب، بياناً أعلن فيه الانفصال عن "أحرار الشام".
وتأتي هذه الاستقالات والانشقاقات، احتجاجاً على فتوى "المجلس الشرعي" الأخيرة. ويُعرفُ الداعيتان المصريان بأنهما جزء من التيار المحافظ في "أحرار الشام" الذي يمثله بشخصيات عسكرية تضع في الواجهة رئيس "الهيئة الدعوية" في الحركة أبو محمد الصادق. ولم يُخفِ بيان انفصال "لواء أشداء" تأييده للتيار المحافظ، حين اعتبر أن "المجلس الشرعي" الجديد، انحرف عن النهج الذي كان يمثله "الصادق" عندما كان رئيساً للمجلس.
وقبل ذلك، مثّل توقيع "أحرار الشام" وللمرة الأولى، على بيان مشترك لفصائل المعارضة، بخصوص حي الوعر الحمصي، في 18 أيلول/سبتمبر، تطوراً ذا دلالات في ما يتعلق بتوجه الحركة القادم، بالتزامن مع تصاعد الصراع في الحركة وعليها. وشهدت الفترة الأخيرة، سباقاً محموماً بين التيار السلفي الجهادي وبين تيار القوى الثورية المحلية الذي يمثله "الجيش الحر" وفصائل إسلامية معتدلة، من أجل استقطاب حركة "أحرار الشام". وهو ما انعكس على البيت الداخلي لـ"أحرار الشام"، وزاد من حدة الخلافات فيها التي ترتبط أصلاً بالموقف من توجهها العام.
وبعد أن كان الحديث يقتصر على الصراع التقليدي، بين الجناح الراديكالي في الحركة وبين تيار "المكتب السياسي"، طفا على السطح مؤخراً، مستوى جديد من الخلاف، غير منفصل عن الأول، لكنه يتجاوز السياسي، لصالح الفقهي، أي بما يتعلق بالمنهج.
فقد تفرغ الشيخ أبو اليقظان المصري، خلال الأيام الأخيرة الماضية، لتركيز الردّ على عضو "المجلس الشرعي" الدكتور أيمن هاروش، وانتقاد مواقفه التي سبقت فتوى "المجلس الشرعي" الأخيرة، والتي وضعها الكثيرون في سياق المراجعات التي كان قد أطلقها قادة الحركة السابقين، والذين قضوا قبل عامين، في عملية اغتيال جمعي غامضة في ريف إدلب.
"فتاوى الهاروش الخاصة لا تمثلنا" كانت إحدى تغريدات أبو اليقظان المصري، وهو من التيار السلفي المصري، وكان قد وصل إلى سوريا في العام 2012 قبل أن يعود إلى مصر بعد تسلم "الأخوان المسلمين" الحكم فيها، لكنه ما لبث أن غادرها بعد الإنقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي، متوجهاً إلى حلب من جديد.
"المصري" الذي يعتبر مع مواطنه أبو شعيب، رموزاً في التيار المحافظ في "الحركة"، كان يعلق على مجموعة الفتاوى والتصريحات أطلقها الهاروش مؤخراً، والتي رفض فيها تكفير الحكومة السورية المؤقتة بتشكيلتها الجديدة بعدما نقلت مركزها من مدينة إدلب إلى مدينة جرابلس التي سيطر عليها "الجيش الحر" ضمن عملية "درع الفرات" في ريف حلب الشمالي الشرقي، بالتعاون مع تركيا. كما رفض الهاروش تخوين الفصائل المشاركة في هذه العملية، فضلاً عن رفضه تكفير الحكومة التركية.
خلاف ساند فيه كل طرف، وإن كان بدرجة متفاوتة، قياديون من مختلف الصفوف في "الحركة"، وكذلك مسؤولون وعاملون في مكاتبها الإدارية، وبدا واضحاً أن هناك مستوى جديداً من الصراع، لن يمر بلا نتائج.
هذه الصورة ساهم في تعزيزها قدر كبير من المعلومات التي نشرتها عن الحركة مجموعة حسابات مجهولة في مواقع التواصل الاجتماعي إدعى أصحابها إنهم مسؤولون في "أحرار الشام" أو مقربون منها، واتهموا قيادتها الحالية "بحرف مسارها، والتنازل عن المنهج الذي تأسست عليه".
قضية بدت خطيرة بالنسبة للحركة، التي استنفرت مسؤوليها ومكاتبها، من أجل الرد على هذه الحسابات، ونفي المعلومات التي تنشرها ومواجهتها، من خلال تصريحات وبيانات، حذرت من هذه الحسابات، وقالت إنها "مرتبطة بأجهزة مخابرات وبتنظيم داعش"، وأن هدفها "ضرب تماسك الحركة وتشويه صورة قادتها، والتشويش على مواقفها".
وبغض النظر عن عدم اقتناع البعض بهذه الرواية، خاصة في ضوء بعض المعلومات التي قدمتها هذه الحسابات عن البيت الداخلي للحركة، واعتبرها البعض تأكيداً على أن أصحابها من المطلعين فعلاً على تفاصيل لا يمكن لمن هو خارج الحركة أن يعرف بها. إلا أن هذا لا ينفي أن حملة إعلامية واسعة تعرضت لها "أحرار الشام" في مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الفترة الأخيرة الماضية، بالتزامن مع مفاوضات الاندماج مع "جبهة فتح الشام" والتي تم تعليقها.
ويبدو أن هذه الحملة كانت فعالة، إلى حد اضطر فيه قادة "الحركة" للرد عليها بأنفسهم، من خلال تصريحات صحافية، وكذلك في مواقع التواصل الاجتماعي، التي كانت قد نشطت فيها الحملة، وهاجمت بشكل مركّز تيار "المكتب السياسي" فيها، وحمّلته المسؤولية عن عرقلة التوحد والإندماج، حتى عندما كانت المفاوضات جارية.
الحملة قابلتها حملة أخرى معاكسة، رفعت شعار "الجيش الحر" وعلم الثورة، داعية حركة "أحرار الشام" إلى التمسك بمنهج التجديد والإصلاح الفكري، الذي أطلقه قادتها الراحلون قبل عامين، والتشارك بأي صيغة ممكنة مع بقية الفصائل الثورية.
بل إن توجهاً واضحاً داخل هذه الحملة، أكد على أن حركة "أحرار الشام" بما تمثله من ثقل عسكري وقبول شعبي، يمكن أن تقود عملية توحد شامل لجميع فصائل الثورة الوطنية والإسلامية، بما فيها "فتح الشام" فيما لو أرادت، وذلك تحت مظلة "الجيش الحر" الذي يعتبر واجهة الثورة وممثلها الشرعي دولياً، والشعبي محلياً.
صراع على الحركة، بين التيار السلفي الجهادي، وبقية التيارات الأخرى، لم يبدأ اليوم طبعاً، لكنه بلغ ذروته أخيراً، وهو صراع مفهوم بطبيعة الحال، نظراً للثقل والأهمية الكبيرة التي تمثلها الحركة على مختلف الصعد.
أمر يمكن تلمسه بوضوح من خلال الاحتفاء "الثوري" بتوقيع الحركة على بيان فصائل الجيش الحر المشترك، الأحد، بخصوص الهدنة والتطورات في حي الوعر بحمص، وكذلك فتوى "مجلسها الشرعي" الأخيرة المتعلقة بعملية "درع الفرات".
لكن الاستقالات والانشقاقات التي تم الإعلان عنها الأربعاء، أعادت مجدداً طرح السؤال حول إلى أي مدى يمكن اعتبار هذه التطورات حسماً للتنافس، إن كان داخل الحركة، أو عليها؟ سؤال لا تجيب عليه بشكل كامل التطورات الأخيرة بالتأكيد، لكنها تعطي مؤشراً كبيراً، مع اليقين أن الصراعين لن يكون من السهل حسمهما.
فإلى جانب التنافس الشديد بين التيارات المتباينة داخل الحركة، برزت عوامل يمكن أن تكبح توجهها بشكل كامل نحو المنظومة الثورية الرسمية، وبينها التأثير الذي يحتفظ به التيار القريب من المدرسة السلفية الجهادية داخل الحركة، بالإضافة إلى الخشية من عدم جاهزية جميع كوادر الحركة وقواعدها لاستيعاب التوجه الجديد.
عوامل يرى البعض أنه يتم المبالغة فيها، ويقولون إن تجربة "جبهة فتح الشام" مع قضية الانفصال عن تنظيم "القاعدة"، تعطي دليلاً قاطعاً على أن مثل هذه التحفظات، ليست بالأهمية التي يتم التعاطي معها، بل إن تجاوز الجبهة لهذا الامتحان من دون خسائر تذكر، يجب أن تشجع "أحرار الشام" على القيام بهذه الخطوة.
رؤية اقترب منها بوضوح القيادي في الحركة خالد أبو أنس، والذي علق على الاستقالات الأخيرة من الحركة، بالتأكيد على أنها لن تؤثر عليها، بل ستساهم في تقويتها أكثر، نافياً في الوقت ذاته أن يكون "المكتب السياسي" للحركة قد عرقل الاندماج مع "جبهة فتح الشام"، وهو ما تشهد عليه محاضر الجلسات، بحسب تأكيده.
وفي حسابه في "تويتر"، كتب أبو أنس، وهو أحد ثلاثة من قادة "أحرار الشام" المؤسسين والذين ما زالوا على قيد الحياة، إن "داعش انشقت عن جبهة النصرة، ثم خرجت منها جند الأقصى، فتعافت النصرة وعادت أقوى مما كانت عليه، وقد ابتليت أحرار الشام بمصائب عظام، فعافاها الله وعادت أقوى وأمضى". وأضاف: "من قرأ تاريخ الحركة، يعلم تماماً أنها لا تقف عند اسماء ولا تنحني أمام العواصف، وتتحدى كل من يكيد لها ولنهجها الذي أحبه الناس".
لكن هذا التفاؤل، الذي عززه بالنسبة لأصحاب وجهة النظر هذه، الظهور الأخير لأبي محمد الجولاني، قائد "جبهة فتح الشام" على قناة "الجزيرة"، وتجنب فيه مهاجمة بقية الفصائل أو انتقادها، يبقى تفاؤلاً قلقاً كما يرى البعض، الذين يقولون إن حركة "أحرار الشام"، وإن كانت أقرب اليوم أكثر من أي يوم مضى إلى قوى الثورة، إلا أنها تعيش مرحلة إعادة بناء حقيقية، تستدعي الهدوء والحذر في التعامل معها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها