على جادة ويسكونسن في واشنطن، حيث تقع السفارة الروسية، وقف مراسلو خمس أو ست شبكات تلفزيونية أميركية أمام كاميراتهم. الرئيس باراك أوباما هو الذي طرد 35 ديبلوماسياً روسياً وأغلق مقرين للبعثة الروسية في ولايتي نيويورك وميريلاند، لكن الكاميرات الأميركية مسلطة على سفارة روسيا بدلاً من البيت الابيض. روسيا تسرق الاضواء، فيما تستعد أميركا لاستقبال رئيسها الجديد دونالد ترامب، الذي يصر على تفادي التطرق إلى أي موضوع يتعلق بالروس، ربما خوفاً من كشف المستور في كيفية فوزه بالرئاسة.
لكن إلى أن تستعيد الولايات المتحدة توازنها، وهو ما يبدو مستبعداً بقيادة رئيس شبه أمي مثل ترامب، لن تقدر واشنطن على ممارسة أي نفوذ لها حول العالم، على الرغم من قوتها العسكرية الجبارة، وهو ما يعني أن على منطقة الشرق الاوسط أن تستعد للمزيد من الغياب الاميركي.
صحيح أن أوباما كرر أن ادارته انسحبت من الشرق الاوسط لأن القدرات الفكرية لخبرائها ومسؤوليها محدودة ولا تسمح لهم استيعاب تاريخ المنطقة وشؤونها، حسبما ورد في خطابه عن "حال الاتحاد" مطلع 2016، إلا أن واشنطن بقيادة أوباما لم تنسحب أبداً من المنطقة، بل هي ألقت بثقلها خلف إيران، وراهنت على تحول "الجمهورية الإسلامية" إلى قوة إقليمية تضبط أمن المنطقة بما فيه مصلحة أميركا والغرب عموماً.
لكن على الرغم من تحرير أميركا لمئات المليارات الإيرانية المجمدة، وسماح واشنطن بانتشار ميليشيات ايرانية مصنفة إرهابية على اللوائح الأميركية، في العراق وسوريا، جلّ ما قامت به القوة الايرانية هو التحرش بالبحرية الاميركية المرابضة في الخليج، ولم تنجح في استعادة أراض عراقية من دون غطاء جوي أميركي، وبالكاد استعادت أراضٍ سورية على الرغم من غطاء جوي روسي.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تلقف الفشل الاميركي-الايراني في تثبيت منطقة الشرق الاوسط، وحاول -بطلب من الايرانيين- أن يستبدل القوة العسكرية الاميركية في الشرق الاوسط بقوة روسية، وأن يجعل من إيران حليفة تابعة كما الأسد. لكن إيران رفضت التبعية، وأقفلت قواعدها الجوية في وجه القاذفات الروسية التي تقصف السوريين، فأرسل بوتين حاملة طائراته كوزنتسوف كرسالة للإيرانيين أنه بغنى عنهم.
على أن الفرصة لم تسنح تماماً أمام بوتين إلا بعد فوز مرشحه ترامب بالرئاسة الأميركية، فالأخير يعادي إيران، ما يضعف موقفها في سوريا وعموم المنطقة، ويجعلها تحت رحمة موسكو. ومن المرجح ان يطلق ترامب يد بوتين في الشرق الاوسط، وأن يتحول وزير الخارجية الأميركية المقبل ريكس تيلرسون -صديق بوتين الشخصي- إلى مشاهد يهلل للسياسات الروسية، ويحضر لقاء النظام والمعارضة في الآستانة ليمهره توقيعه، ويقف أمام عدسات الكاميرات لمشاركة نظيره الروسي سيرغي لافروف فرحته بالتوصل المحتمل لاتفاق.
مع خروج أوباما من الحكم يتوقف الدعم الأميركي لإيران وتنتهي آخر انواع التدخل الاميركي في شؤون الشرق الاوسط، وتنتقل الرياسة لأيدي بوتين، الذي سيستعين أكثر بالقوى الموجودة في المنطقة، نظراً لضعف الإمكانات المالية والعسكرية الروسية مقارنة بنظيرتها الأميركية.
في غياب القوة الأميركية، ستظهر إلى العلن أكثر الأوزان الفعلية للحكومات التي تعتقد نفسها من اللاعبين الاقليميين. الرئيس السوري بشار الاسد سيوافق على كل ما يقوله الكرملين، الذي تجمعه مصالح اكثر بكثير مع أنقرة، ومشاريع خطوط الغاز الروسية عبر تركيا وحجم التجارة بين البلدين.
أما رؤية بوتين لسوريا، فكانت مبنية في الماضي على ضرورة "احترام السيادة الروسية" لكنها انقلبت لاحقاً إلى مبدأ أن على كل قوة خارجية أن "تضبضب أزلامها" في سوريا، وأن تدفعهم نحو السلام والمشاركة في حكم يجمع كل الأطراف، ما يعني أنه بموجب رؤية بوتين، يصبح حجم الأسد مثل حجم أي فصيل سوري ثوري آخر.
ستضطر ايران لانتظار التغييرات في نظام روسيا الشرق أوسطي الذي سيحل مكان سلفه الأميركي، ربما بشكل مؤقت. ولكن إلى أن تأتي التغييرات، لم تعد مهنة "بيع الأمن" وتهديد الغرب بالارهاب واللاجئين مجدية. ستضطر إيران الى البحث عن نقاط ضعف روسيا، وحتى تعثر عليها، ستجد إيران نفسها مجبرة على قبول التعليمات الروسية حتى إشعار آخر.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها