مباشرة وبعد اغتيال السفير الروسي أندريه كارلوف في أنقرة، على يد ميرت ألتنتاش (ضابط شرطة تركي خارج وقت خدمته)، أعلن المسؤولون الروس والأتراك أن الهدف الحقيقي للعملية كان الصداقة الروسية-التركية. توقيت الإغتيال، الذي أعقب بالتحديد عمليتي تفجير انتحاريتين خلال الأسبوع الماضي، وعشرات العمليات الانتحارية التي أودت بحيات المئات خلال العام الماضي، صعّد من الخوف العام من العيش في بلد يزداد عدم استقراره وأمنه. ومع ذلك، الإعلان المُستعجل من قبل المسؤولين الأتراك ونظرائهم الروس، أراح الرأي العام التركي من خوفه المبدئي من تورط تركيا في "حرب نشطة".
قد يعتقد المرء أن تحليلاً أعمق للحادثة قد يظهر بعد انحسار الخوف من حرب وشيكة. بدلاً من ذلك، ومهما يكن، فقد ألقت المعارضة والحكومة، على حد سواء، باللوم على المتهمين الاعتياديين. وبينما كانت المنابر الإعلامية والشخصيات العامة في "السوشيال ميديا" المقربة من الحكومة التركية، سريعة في إعلان تبعية ألتنتاش لجماعة فتح الله غولان، فإن المعارضة العلمانية واليسارية كانت سريعة في إعلانه موالٍ لـ"جبهة النصرة". وفي الحقيقة، كلا ردي الفعل كانا بلا أساس: بينما الحكومة، ومنذ محاولة إنقلاب 15 تموز/يوليو الفاشل، أصبحت مقتنعة في لوم "حركة غولان" عن أي فعل سياسي ضار بها من دون الحاجة لتقديم أي دليل ملموس، فدليل المعارضة اليسارية/العلمانية الوحيد على تبعية ألتنتاش لـ"النصرة" هو يده المرفوعة في الهواء، وسبابته المشيرة إلى الأعلى وهتافه بالتكبير.
العديد من كتاب المعارضة كانوا سريعين أيضاً في تأسيس رابط بين الاغتيال والمظاهرات التي خرجت تضامناً مع حلب الأسبوع الماضي، أمام السفارة الروسية. ومن خلال توجيه اتهام مباشر للمتظاهرين بأنهم سلفيون جهاديون، فإن أولئك الكتاب، ألقوا باللوم على "حملة الميديا" التي خُلِقت (غير واضح من قبل من) حول حلب لـ"تشجيع السلفيين" للتظاهر أمام السفارة الروسية، وبالتالي لتشجيع ألتنتاش لقتل السفير الروسي.
منظمة سياسية لطلاب الجامعة تدعى "طلاب الجامعة المسلمون" كانت المنظم الرئيس للمظاهرة الأولى أمام السفارة والتي جمعت آلاف الأشخاص، معظمهم مواطنون أتراك وبعضهم سوريون مقيمون في اسطنبول. وعلى الرغم من أن المنظمين ومعظم المشاركين الأتراك لديهم، بصراحة، هوية إسلامية، فسيكون تصريحاً مغلوطاً ومتهوراً القول إن المتظاهرين بمعظمهم "سلفيون جهاديون". أحد المنظمين وهو طالب متخصص في دراسات الميديا، قال: "نعم، إننا مسلمون ونؤمن بالقنوات السياسية، لا بالعنف. نحن ندعم قتال الشعب السوري للحرية والحياة الكريمة. أنا شخصياً ضد المقاتلين الأجانب في سوريا". أحد المتظاهرين قال: "معظم المتظاهرين هم طلاب جامعات، ونحن نحب ونستمتع بحياة الجامعة، لذا فنحن لسنا شياطين كما يحبون تصويرنا. معظمنا ضد المنظمات التكفيرية مثل جبهة النصرة، ولكنه صحيح أن مجموعة صغيرة من السلفيين الجهاديين ظهرت في المظاهرة من غير دعوة".
معاملة كل الحركات الإسلامية على أنها متجانسة، وكل من اصطف مع الثورة السورية كسلفي جهادي، هو دليل أيضاً على كيفية موضعة المعارضة العلمانية اليسارية التركية لذاتها، بشكل عام، بالنسبة إلى موضوع التهّجير بالقوة للحلبيين من مدينتهم. وإذا كانت الكتلة الكبرى من اليساريين والكماليين تعتقد أن نظام الأسد وروسيا "يطهران" حلب من السلفيين الجهاديين، وأن لا مدنيين ولا نشطاء داخل حلب وأن كل تلك الصور القادمة من داخل حلب هي مفبركة، فإن جزءاً صغيراً استخدم لغة "ضد الحرب" الإنسانية ودعم "الإخلاء" للمدنيين. ومع ذلك، حتى بالنسبة لهذه المجموعة الصغيرة، فقد كان صعباً جداً عليها، النطق بجمل تعترف بالجرائم المرتكبة من قبل نظام الأسد وروسيا.
على كل حال، من المستحيل تحليل رد فعل المعارضة اليسارية والعلمانية لما يحدث في سوريا بمعزل عن السياسات التركية المحلية. التسلطية المتصاعدة في تركيا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة، وخسارة الأمان في الحياة اليومية بسبب التفجيرات الانتحارية، وفشل المفاوضات السياسية مع الحركة الكردية، وتوقيف نواب "حزب الشعوب الديموقراطية"، وطرد العديد من الأكاديميين اليساريين باتهامات مناصرتهم لحزب "العمال الكردستاني"، وتمديد قانون الطوارئ الذي جعل من الحريات المكفولة بالدستور بلا معنى، كل ذلك أنتج نقداً واحداً من المعارضة اليسارية والعلمانية للحكومة: الحكومة التركية الحالية غير مهتمة بالعملية السياسية، وبدلاً عن ذلك، هي تدفع تركيا أكثر فأكثر إلى دوامة من العنف عبر سياساتها المحلية والإقليمية. فاغتيال السفير من قبل ضابط شرطة كان إثباتاً من قبل المعارضة على تزايد انتشار العنف وأسلمة القوى الأمنية في تركيا.
الآن، المعارضة تُجمع على أن نتيجة الاغتيال ستكون ابتعاداً لتركيا أكثر عن الناتو والاتحاد الأوروبي، ووقوعها أكثر تحت التحكم الروسي. ورغم أن البعض تبنى ذلك باعتباره نتيجة صريحة لفشل سياسة الحكومة التركية في سوريا، فإنه يجب أن يكون واضحاً أن تحكماً روسياً إضافياً في تركيا بالترافق مع نظام رئاسي سيصبح نافذاً قريباً على الأغلب، سيعني كبحاً أبعد للديموقراطية في البلد. لسوء الحظ، فإن احتمال وجود معارضة تقاتل من أجل الديموقراطية في تركيا وتساند قتال الشعب السوري لنيل حريته، يبدو غائماً. أكثر من ذلك، تلك القلة من المعارضة التي تصدح بصوتها عالياً لدعم الثورة السورية، ستخاطر الآن أكثر من أي وقت سبق، في أن يتم نبذها من قبل المعارضة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها