ساعات تفصل تركيا عن استفتاء 16 نيسان/إبريل على تعديل دستوري سيحوّل تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي تنفيذي في حال التصويت بنعم. ولكن، لماذا تجري تركيا هذا الاستفتاء الآن؟ ولماذا يدفع الرئيس أردوغان بشكل كثيف لمثل هذا التغيير الجذري بهذه العجلة؟
منذ بداية حياة أردوغان السياسية، وعلى الرغم من أن كاريزميته الشخصية لعبت دوراً في التأييد الذي حصل عليه، فإن السبب الحقيقي خلف نجاحه السياسي المتواصل كان التحالفات الجمعية التي أسسها حزبه مع الفاعلين السياسيين الآخرين. ومع ذلك، ابتعد أردوغان بشكل ثابت عن تلك السياسات الجمعية ليؤسس دوره كـ"حكم رجل واحد" منذ مظاهرات "غازي بارك" في العام 2013 ووصل ذروته بعد محاولة انقلاب 15 تموز/يوليو الفاشلة. الانقلاب الفاشل الذي قام به أتباع فتح الله غولان، كان بالفعل نتيجة التجزئة في كتلة القوى الحاكمة التي أجبرت أردوغان لتأسيس تحالفات جديدة مع زمر "مفاتيح قوى" متعددة ضمن أجهزة الدولة. ومع ذلك، وكما أشار الصحافي والكاتب روشين شاكير، فإن هذا التحالفات هذه المرة ليست قائمة على تشارك السلطة، بل على توزيع السلطة من قبل أردوغان. بمعنى آخر، عيّن أردوغان دوراً للفاعلين السياسيين الآخرين ضمن مجال الحكم، فقط إلى الدرجة التي يراها هو مناسبة. لذا، فالاستفتاء هو أفضل أداة لاقرار العلاقات بين تلك الزمر تحت سيطرة أردوغان غير المتنازع عليها.
على الرغم من أن تجارب الإنتخابات السابقة برهنت على أنه ليس في الإمكان الثقة بنتائج استطلاعات الرأي، فإن كل الاستطلاعات حتى الآن تظهر أنه وللمرة الأولى منذ وصول "العدالة والتنمية" إلى الحكم، فإنه لن يفوز في الاستفتاء هذه المرة بسهولة، ولن يرسخ تفوقه غير المتنازع عليه، حتى في ظل جو القمع المرافق لحالة الطوارئ، وتقريبا التحكم الكامل للحكومة بوسائل الميديا الرئيسية، واستخدامها كميات خيالية من المصادر المالية لتمويل الحملة. ويبدو أردوغان كلما تحرك باتجاه حكم الرجل الواحد، كلما ابتعد عن الدوائر التي اعتادت دعمه.
من بين الدوائر التي دعمت "العدالة والتنمية" خلال السنوات الماضية هناك المحافظون من الطبقات الوسطى والشرائح العليا من الطبقات الوسطى، المُستجدون، الذين كانوا مهمشين تاريخياً تحت ظل الحكم العلماني-الفاشي/الجمهوري لعقود. هذا القطاع من المجتمع الذي اختبر الصعود إلى الأعلى في ظل حكم "العدالة والتنمية" استفاد بشدة من عولمة تركيا على الرغم من كونه محافظاً اجتماعياً. القيم العالمية للتعددية والديموقراطية هي ما مكّنهم من أن يُضمّوا إلى مركز الحياة السياسية، الإقتصادية والاجتماعية في تركيا. لذلك، فإن خطاب أردوغان القومي المتصاعد، الدافع لانطواء تركيا، وعزلها عن الغرب، هو في الوقت نفسه غير مرحب بعد لدى هذه القطاعات من المجتمع.
خسارة الدعم لأردوغان، الثانية والأكثر وضوحاً، جاءت من الليبراليين الذين كانوا مع "العدالة والتنمية" بسبب خطابه التعددي، الموجه ضد النظام القديم العسكري، والذي لاحظناه في سنواته المبكرة من الحكم. بالنسبة لهؤلاء الليبراليين، ومن بينهم كتاب مهمون وأكاديميون ونخبة ثقافية، من المستحيل دعم تغيير دستوري سيمؤسس عملياً نظاماً شعبوياً سلطوياً يتيح للرئيس متبوعاً بحزب سياسي، أن يلغي مكتب رئيس الوزراء وينقل السلطة التنفيذية إلى الرئيس.
خلال فترة حملة الاستفتاء شاهدنا أن شخصية أردوغان كانت أحد أقطاب الحملة الرئيسية، في حين كان القطب الرئيس الآخر هو القومية. ومن الواضح أن أردوغان وحزب "العدالة والتنمية" الحاكم هَجَروا التحالفات القائمة على الإسلامية لصالح تلك القائمة على القومية، على الرغم من كونها ضد-الكردية وضد الغرب. لهذا فإن المصوتين بنعم لا يشددون على التعديلات الدستورية التي ستدخل حيّز التنفيذ، لكنهم في الغالب يعلنون رغبتهم بتركيا أقوى، أكثر استقراراً، مستقلة، موحدة، كأسباب لتصويتهم بنعم. من الواضح أن الحكومة الشعبوية قد راكمت بنجاح على تزايد الإسلاموفوبيا في الغرب وعقود من الشعور بالإهانة والدونية تجاه أوروبا في الخطاب الحداثوي الذي كان سائداً أثناء حكم الكماليين، بغرض استغلال مشاعر القوميين بين العامة. ولذا، فليس من المفاجئ أن حزب "الحركة القومية"، الحزب الفاشي القومي المتطرف، هو الشريك الرئيس لـ"العدالة والتنمية" في الاستفتاء.
وبينما استفاد معسكر مؤيدي التعديل الدستوري من القومية، فإن المعارضة في "الحركة القومية" و"الشعب الجمهوري"، التي تقول إنها أحزاب ديموقراطية اجتماعية، راكمت أيضاً بدورها على الخطاب القومي. خطاب "الشعب الجمهوري" القومي في الحملة، له خاصية رئيسية؛ موقفه العدائي من اللاجئين السوريين. زعيم الحزب قليشدارأوغلو تكلم علانية أكثر من مرة ضد اللاجئين السوريين. واستهدف اللاجئين السوريين مباشرة بالقول: بينما يموت الجنود الأتراك في سوريا، الشباب السوريون هم في تركيا. لقد وجدوا أعمالاً بينما أبناؤنا غير موظفين". ومع إعلانه هذه المواقف، قليشدارأوغلو بدا وكأنه قد نسي أن نواباً من حزبه السياسي قد صوتوا لصالح إرسال الجيش التركي إلى سوريا، كما فشل في ملاحظة مستويات الاستغلال غير المتخيلة التي يتعرض لها العمال السوريون. أكثر من ذلك، المناشير الداعمة لـ"لا" الموزّعة في غازي عينتاب، واحدة من المدن التي تستضيف أكبر عدد من اللاجئين السوريين، قالت: "صوّت بلا إذا كنت لا تريد للسوريين الحصول على الجنسية". مثل هذا الموقف ضد-اللاجئين ولّد ردود أفعال قوية ضد "الشعب الجمهوري" من قبل حركات المعارضة الأكثر ديموقراطية، والتي طالبت "الشعب الجمهوري" بتأسيس حملته على دمقرطة أكبر للبلد وعلى التعددية بدلاً من المشاعر المعادية للسوريين.
التوسع لأشكال مختلفة من القومية –من معسكر "نعم" ضد الأكراد إلى انطواء أكثر لتركيا، ومن معسكر "لا" السائد ضد اللاجئين السوريين- سيكون التحدي الأساس للمعارضة الديموقراطية في تركيا ما بعد الاستفتاء، مهما كانت نتيجته. المعارضة الديموقراطية تجادل بأنه حتى لو فاز التصويت بـ"نعم"، سيكون ضمن هامش رفيع ما يعني أنه لن يكون كافياً لاستقرار نظام مطلق. كما تجادل بأنه ليس في تركيا ظروف ضرورية تُبقي هذا النظام في السلطة على المدى الطويل، مثل التحالفات الدولية القوية، والاستقرار الاقتصادي الطويل الأجل، والتوافق مع الطبقة الحاكمة. المعارضة الديموقراطية ذاتها أعلنت أنه في حال فوز التصويت بـ"لا" في الاستفتاء، فإن تصعيداً في قمع الدولة قد يكون متوقعاً كما تمّ اختبار ذلك بعد انتخابات العام 2015. ومع ذلك، هذه المرة قد لا يكون سهلاً فعل ذلك لأن "لا" تعني ضمناً أن أردوغان لم يعد يحظى بتأييد كامل من الكتلة الحاكمة. لذا فهم يجادلون بأنه، مهما كانت نتيجة الاستفتاء، فإن المعارضة الديموقراطية بحاجة إلى مواصلة التنظيم من أجل تركيا ديموقراطية استيعابية، مع العطالة التي أحرزتها خلال حملة الاستفتاء والتي عادت من خلالها إلى الشوارع على الرغم من جو القمع في ظل حالة الطوارئ.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها